حسن اليمني
لا يوجد أبداً وإطلاقاً احتمال لدى المقاومة الرافضة للوجود الصهيوني في فلسطين على تتبع خطى تلك المقاومة التي انتهت بالاعتراف بالوجود الصهيوني ليس عن اختلاف في الفهم وإنما اختلاف في الإيمان بالقدرة وتحدي الظروف والإمكانيات، خرجت اليوم دول أوروبية داعمة للكيان تعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية الأب الروحي لهذا الكيان تعلن عن نيتها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولا اشك في صدق نواياها هذه باعتبار أن هذا هو أفضل الحلول التي تبقي وتحفظ للكيان المحتل وجوده على ارض فلسطين كرأس حربي متقدم للصهيونية العالمية في قلب الوطن العربي لحماية السيطرة والهيمنة الغربية على محور الأرض ونقطة تقاطع القارات والمضائق البحرية والبرية والجوية، وتأمين الثروات الطبيعية المختزنة في هذه المنطقة من العالم، لكن تعنت وغطرسة القيادات السياسية والعسكرية في الكيان المحتل تحرج الغرب وتكشف أخلاقهم المعاكسة تماما لمثلهم التي يرفعونها في المحافل الدولية من مثل ضرورة احترام القانون الدولي والحقوق وهكذا، ثم إن هذا الانفصال الواقع بين الشعار والتطبيق والذي كشفه التعنت والغطرسة من قبل ساسة وعسكر الكيان المحتل ظهر بشكل فاضح بعد السابع من أكتوبر للعام الماضي ما جعل أجيال الشباب في أنحاء العالم يرفعون الاحتجاج والمعارضة لاستمرار هذا الانفصال بين الشعارات الزائفة والحقائق الظاهرة بما زاد من حرج القوى الغربية وأدى إلى تمرد بعض الدول الأوروبية على السطوة والقوة الصهيونية من خلال الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبما يسمح بمزيد من اعتراف دول أخرى لتضيق الخناق على بقاء واستمرار زيف المثل والشعارات الغربية التي ترفعها كغطاء لحماية الوجود في فلسطين.
وحين وصل بنا مشهد الواقع إلى هذا الطرق الحاد بين الاحتلال والمقاومة ويستمر ذلك لأكثر من ثمانية أشهر ولا زال مستمرا فإن إعادة التفكير في الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، كما بيّنت أصبح واضحا وجليا ويستوجب قراءته بشكل أدق، لهذا ظهرت كل الدراسات والبحوث والتفسير هنا وهناك تضع استمرار الوجود للاحتلال على أرض فلسطين محل تساؤل، لا بل تجاوز ذلك إلى باطن قوة هذا الوجود المتمثل في القوة الغربية الصهيونية ومدى بقاء قوتها وهيمنتها في هذا الصراع وأثره على بقاء قوتها هي وهيمنتها في صدارة القوة العالمية على مستوى العالم، بمعنى أن وجود الكيان المحتل على أرض فلسطين كقاعدة عسكرية للسيطرة والهيمنة على المنطقة صار محل تساؤل ويطرح أسئلة أكبر في بقاء هذه القوة على مستوى العالم.
بهذا الفهم ندرك أن الأمر لم يعد في البحث عن حلول لما سمي بقضية الشرق الأوسط فقد فات أوانه وربما انتهى أوانه في مسار النهاية طالما استمرت الحرب القائمة اليوم في غزّة لأنها تكشف حقائق الصراع وتزيد من انكشاف حقيقة الموقف الغربي الصهيوني, حتى أمام شعوبها, وربما وصل الأمر ليس في بحث الأهمية لهذا الوجود من عدمه فقد صار واضحا ومعلوما، بل إن البحث اليوم صار في ماذا بعد نهاية الكيان المحتل والآثار المترتبة على ذلك، ماذا بعد تحرير فلسطين وعودتها دولة عربية إسلامية؟ وما أثر ذلك على المنطقة بكافة منظومتها والآثار المتوقعة بعد ذلك على خارطة الجيوسياسي العالمي؟ نعم إلى هذا الحد أوصلتنا عملية السابع من أكتوبر ليظهر لنا مدى الإعجاز الذي حققته وحينئذ نفهم إجماع غالبية النظم السياسية في العالم على المأزق الذي وضعته هذه العملية ومحاولات تجاوزها والقفز على نتائجها عبثا مقابل استيقاظ عقول وفهم ووعي شعوب هذه النظم في مختلف أنحاء العالم على ظلم وإجحاف قرار إنشاء الكيان المحتل على أرض فلسطين، وبقي أن أقول إن لا غرابة -ولا عجب- في موقف المقاومة الفلسطينية فهذا هو حال كل مقاومة احتلال في أي وطن وأي شعب وأية أمة الذي يؤدي في النهاية إلى التحرير حين يتمسك بغايته وهدفه دون التفات لموازين القوة، القوة مهما بلغت لا تلغي الحقوق أبدا وإطلاقا.
وما يتوجب قوله أخيرا لضبط وزن وتكامل القراءة يفرض طرح احتمالات مخالفة قد يكون أخفاها التمني أو الرغبة أو حتى الحماس، فماذا لو تراجعت المقاومة تحت طول أمد الحرب وكلفة خسائرها وتلاشي إمكاناتها وأخذت مسار الخضوع للأمر الواقع والقبول به، بل وماذا لو تم القضاء عسكريا بشكل فعلي وتام على المقاومة المحاربة اليوم لوجود الاحتلال، هل ينهي ذلك فكرة زوال الكيان المحتل وانتهاء القضية الفلسطينية وتحول الاهتمام العالمي لشئون أخرى؟
أبدا وإطلاقا وبكل تأكيد ستظهر مقاومة أخرى أشد وأقوى وأكثر تصميماً بقوة وإمكانات متجاوزة ما سبقها بحكم المنطق الطبيعي المستمر في التقدم، وستكون مقارعتها للاحتلال أشد وأقوى واحتمال نصرها وتحريرها للأرض أكبر وأعظم، ذلك أنها ستبني على ما تقدم تصنيع وتسليح ولا عودة أبدا للحجارة والسكاكين التي ابتدأت بها مقاومة اليوم، وبنفس الوقت سيكون الاحتلال أضعف في الاستعداد لتحمل المخاطر ليس فقط الوجودية وإنما أيضا الاقتصادية والاجتماعية بما يزيد من تقارب موازن القوة للطرفين ويجعل الحرب أضعاف مدتها اليوم بأضعاف تكاليفها وإضعاف خسائرها، وفي حال طرح تساؤل يبحث عن مخارج يبقي الوجود للاحتلال ويعطي التحرير للمقاومة بمثل قيام دوله فلسطينية بجوار دولة احتلال فهو بالتصنيف المنطقي لطبيعة الأشياء فعل سياسي يعطي زمن ووقت إضافي يؤجل النهاية لكن بشكل تدريجي (سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي) للاحتلال وليس للمقاومة على قاعدة منطقية تقول إن الاحتلال قوة وان المقاومة حق ومن الطبيعي أن تتوازن القوة والقوة المضادة ولكن من المستحيل أن يتوازن الحق والباطل، بهذا تظهر أهمية النتائج التي تتوصل لها مراكز البحث والدراسات التي أجمعت حتى تلك التي داخل الكيان المحتل أن زوال الاحتلال لفلسطين قادم والاختلاف الحالي هو في متى؟ واعتقد والله أعلم بحكم اختلاف واقع الدول العربية اليوم عنه وقت تناثرها كأقاليم للدولة العثمانية وما بنته خلال هذه العقود من السنين من وعي وعلم وفكر وتطور في كافة المجالات بما فيها التصنيع الحربي وبلوغ اليقظة والوعي مبلغا متينا لا بد أن يماثله -بطبيعة الحال- تقدم لدى الشعب الفلسطيني ومقاومته بما يكفي لقلب المعادلة وإعادة تصحيح التاريخ.