رمضان جريدي العنزي
أتأمل مشهد الحجاج، تبدو ملامحهم مشرقة وجذابة، وفي وئام تام، في أرض الأمن والأمان، والهدوء والسلام، بعيداً عن الهلع والخوف والقلق، يلهجون بذكر الله ويتقربون إليه، لترتوي قلوبهم وأرواحهم بذكره وحمده وشكره، يرفعون أيديهم تضرعاً ودعاء، ويرجون تحقيق الأمنيات من الذي لا يغفل، ولا ينام، ولا يكسر بخاطر أحد، برغبات تتفجر كالينبوع والبركان، أتوه يرجون التوفيق والسداد وحسن الختام، والخروج من الضيق، إلى سعة التدبير، يطلبون رحمته وعفوه وتجاوزه وصفحه، والمقاعد الأولى من الجنان، وأن يتولاهم بحسن تدبيره، ورحمته وسعة فضله، ويسخر لهم الخير، مؤمنين تماماً بأن الله وحده هو الغفور الودود، الرحيم الرحمن، فوضوا أمورهم وأحلامهم وأمنياتهم له ومضوا يلهجون بالدعاء، بقلوب مطمئنه، واثقين بأن الله لن يغلق باباً فتحه لهم، المشاعر المقدسة مهيأة لهم بشكل انسيابي ومتقن، والأمكنة هناك تنبض بالحركة والحياة، وكل شيء في متناول اليد، فاللهم ادم على بلادنا نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، وأن يحميها من كل أفاك لئيم خبيث أثيم، ومن حقارة المرجفين والمألبين والمحرضين، والذين في قلوبهم مرض وفي صدورهم خسة ونذالة، الذين دأبوا على الكذب والبهتان، والحديث من غير برهان، والذين احترفوا مخالفة الحقيقة والصواب، الطامة الكبرى أن الكذب أصبح عند هؤلاء المرجفين متفشياً بينهم، وسارياً في دمائهم سريان النار في الهشيم، فتراهم يكذبون وينسقون الكذب فيما بينهم، وإلى جانب ذلك نرى أكاذيبهم عجيبة وغريبة ومليئة بالتضليل والفساد، نعم أن تفشي الكذب فيما بينهم دليل قوي على فساد أخلاقهم وسقمهم وأدرانهم وخيانتهم، وبعدهم عن المبادئ والقيم، ومجافاة الحقيقة والواقع والصواب، إن ممارسة الكذب من أعظم الخطايا والذنوب، والكذب من صفات المنافقين، ومع هذا يكذبون بشكل عجيب، يعيشون في البعد هناك، ويرقدون في مخادع الأعداء، ويقتاتون من عوائد (التكتوك)، ومن التسول بأشكال مختلفة ومتنوعة، ومن ثم ينظرون ويبيعون الكلام (البلوشي) وهم غير قادرين على إدارة أنفسهم ذاتها، أو حتى إدارة (نعجتين)، فكيف بإدارة الملايين من الحجاج على مختلف ثقافاتهم وعاداتهم وأعمارهم، نقلهم وإعاشتهم وتفويجهم ورعايتهم الصحية، لقد اعتاد هؤلاء الكذب والتدليس والخداع والمداهنة والحلف بالباطل والغدر بالعهد، إلى غير ذلك من الصفات الذميمة، والأفعال السيئة، إنهم آفة ومرض، قال الحسن بن سه: «الكذاب لِصّ، لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك، ولا تأمن مَن كذب لك، أنْ يكذب عليك، ومن اغتاب غيرك عندك، فلا تأمن أن يغتابَك عند غيرك»، إن الكذب بوابة الشرور، والمفاسد والنفور، والأوزار والفجور، آفة ذميمة، وخصلة وخيمة، تسقط قدر الإنسان، وتورده للهوان، الكذب يفشل الأشياء، وينقص الأحاديث، ويبطل المعادلات، ويذهب البركات، ويذهب قدر الرجل وهيبته، لكن هؤلاء استمرأوا الكذب، ومشوا عليه، وعملوا به، تنفيذاً لأجندات رسمت لهم، لقد أصبح الكذب عند هؤلاء ثقافة، فكذبوا حتى ضاعت موازينهم، وبارت بضاعتهم، إن الكذاب ملعون في الكتاب الكريم {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وفي السنة الشريفة (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة)، واسمع ما يهز الوجدان، وينبه الإنسان، كما في البخاري عن ولد عدنان، فيما رآه الرسول في المنام، وفيه (أتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ثم أخبر بمن هذه صفته فقال له: وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق)، فهل بعد هذا الوعيد الشديد، والنهي الأكيد، إن يستمر هؤلاء بالكذب، أم أنهم اعتادوا على الكذب المبين:
إذا عُرِف الكذَّابُ بالكذب لم يزل
لدى الناس كذَّابًا وإن كان صادقا
ومن آفة الكذاب نسيان كذبه
وتلقاه ذا ذهن إذا كان حاذقا
وقال آخر:
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الأدبِ
لَبعضُ جيفةِ كلبٍ خيرُ رائحة
من كذبةِ المرءِ في جدٍّ وفي لعبِ
وزبدة الكلام، أن على هؤلاء أن يعودوا إلى رشدهم، ويبتعدوا عن غيهم، ويعلموا بأن كذبهم وارجافهم لن ينطلي على أحد مهما حاولوا ودلسوا وغشوا وخدعوا واحتالوا وراوغوا ونمقوا الكلام وصفوا الجمل، وأن الجبل لا تهزه الريح مهما كانت هذه الريح عابرة أو عاتية.