أ.د.عثمان بن صالح العامر
من طبيعة الحياة الاختلاف بين بني البشر، وربما أدى ذلك الاختلاف إلى التنازع والخصام جراء التعنّت والعناد، وتمسك كل صاحب رأي برأيه بلا دليل ولا برهان، والطمع في المزيد من حطام هذه الدنيا الفانية، ولذا كانت السلطة القضائية ذات الاستقلالية التامة في الإسلام، وربما لا يصل الأمر بالمختلفين إلى الذهاب للمحكمة والجلوس بين يدي القضاء وإنما هي مجرد مراشقات وملاسنات - حول أمر ليس له أهميته في حياة الناس - توغر الصدور، وتزرع الحقد في النفوس، وللتاريخ فإن الأجداد والآباء يذكرون لنا أن المتخاصمين مهما كانت قضيتهما كانا يذهبان معاً للقاضي أو إمام المسجد أو شيخ القبيلة أو ... أياً كان وفي أي مكان وجد فيقضي لهما بما يدين الله به، ويعود الاثنان وكل منهما راضٍ بما انتهى إليه حكم القضاء (له أو عليه)، وتعود الحياة إلى طبيعتها بلا صدٍّ ولا مشاحنة ولا بغضاء، أما اليوم فالحال اختلف جذرياً عمَّا ورد أعلاه فثقافة الانصياع للحق والرضوخ له انمحت أو كادت عند شريحة عريضة منَّا إلا من رحم الله، فالكثير منَّا يشخصن القضايا وإن كانت تافهة وبسيطة وليس لها طابع شخصي، ويعتقد أن الحكم بالحق لخصمه ذو مساس مباشر برجولته ووضعه الاجتماعي ومنزلته في عائلته وربما قبيلته، مع أن المفترض أن يفصل الإنسان بين ذات القضية والذات المتحدثة، ويضع ما هو في صدده في إطاره المحدد دون التوسع في الافتراضات لتشمل جميع مفردات حياته وعلاقاته ووضعه الوظيفي أو الاجتماعي، ولينصاع للحق فالحق أحق أن يتبع، ليس فقط داخل المحاكم القضائية، بل حتى في التعاملات الحياتية مع ربك أولاً ثم مع نفسك وزوجتك وأولادك وإخوتك وطلابك وجيرانك ومجتمع مدينتك سواء في مناقشتك لقضية مجتمعية أو حين التعاملات المالية والعينية أو عند إصدار الأحكام الشخصية على الآخرين وهكذا تتسع الدائرة وتضيق حسب اختلاف الطبائع وتنوّع العلاقات.
قد يقول القائل: وكيف أجزم أن هذا هو الحق؟ بيَّن ذلك ووضحه بجلاء الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي حذَّر طلابه من زلة العالم، فقال له أحدهم يرحمك الله وكيف أعرف أنه الحق؟ فقال رضي الله عنه: (إن على الحق لنوراً، فإياكم وزلة العالم، فإن الله قد يجعل كلمة الباطل على لسان عالم وقد ينزل كلمة الحق على لسان شيطان) ولذا فالحق لا يُعرف بالرجال وإنما الرجال يُعرفون بالحق، فاللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا يا الله لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وإلى لقاء، والسلام.