ما يمر عام إلاَّ وتهفو قلوب المسلمين قاطبة إلى تلك الأراضي المقدسة وإلى تلك الأماكن الشّريفة وإلى تلك البقاع الطّاهرة حيث تُشدَّ الرحال، ويفد إليها من كل حدب وصوب ليؤدوا مناسك الحج والعمرة معاً امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى {وأذن في النَّاس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيَّام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} سورة الحج الآيتان (26 و28).
وقال تعالى في محكم كتابه:{ولله على النَّاس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} سُورة آل عمران آية (96). حيث تتجمع تلك الحشود المُّؤمنة في زمان واحد، ومكان واحد ولباس واحد تحت راية التوحيد لا إله إلاَّ الله حتى يمثلوا أعضاءً في ذلك التجمع الإسلاميِّ العالميِّ الذي يشهده المسلمون كل عام تحت راية الإسلام الخالدة كما قال تعالى في محكم كتابه: {إنما المؤمنون إخوة} سُورة الحجرات آية (10). حيث يعتبر هذا التجمع فريداً من نوعه في العالم، إذ ليس فيه اختلاف في الرأي، ولا في الكلمة هدفهم واحد، ونداؤهم واحد، يجمعهم مكان واحد، ويتجهون بالدعاء والثناء والشكر لمعبود واحد، وهم في ذلك يمثلون أروع مظاهر الوحدة الإسلاميَّة في تلك البقاع المقدسة، فهذا ما يميز الأمَّة الإسلاميَّة على غيرها من الأُمم، هو حج بيت الله الحرام والتقاء بعضهم بعضاً في أجواء روحانية خاشعة لا يتميز أحدهم على الآخر... جاءوا وقد اتحدت مقاصدهم والتم شملهم، وتوحد هدفهم حيث تمتلئ النَّفس البشريَّة إيماناً، وقوَّة وصبراً وطاعة، ويتخلص المسلم من القلق والتوتر، وتهدأ النّفوس وتطمئن القلوب ويتعمق لديها الإيمان الَّذي يصنع المعجزات كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه: {الَّذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلاَّ بذكر الله تطمئن القلوب} سُورة الرعد آية (28). حيث تُغمر نفس المسلم بالسَّعادة والسّرور. والبهجة، لإحساسه بالروابط القوية بينه وبين خالقه، لأنه تحرك إلى هذه الرحلة الإيمانية المباركة وذلك من أجل التقرب إليه بألوان العبادات التي تترك أبلغ الآثار النَّفسيَّة العميقة في نفس المسلم، كما أنها تتميز هذه العبادة بأن الفرد فيها يتحرر من مشاغل الحياة كافَّة، فيشعر بالقوَّة والعزيمة والعزَّة والوحدة مما تنعكس عليه بالنفع العام وعلى مجتمعه بعد عودته إلى وطنه كالتعاون والَّتآلف والتكاتف والمحبَّة والمودَّة والورع والثَّقة بالنَّفس، ويسعد بالإيمان في كل شؤون حياته، وينعم بالسكينة مصداقاً لقوله تعالى: {هو الَّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} سورة الفتح آية (4). حيث يتلألأ الإيمان في أعماقهم، وينعكس نوراً وضياءً على وجوههم، وتعم الفرحة والسّعادة على قلوبهم، فالقرآن الكريم هو الذي استنارت به الدنيا، فهو الكتاب الذي أسعد البشريَّة ... قاطبة قال سبحانه وتعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنيالَّذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} سُورة الإسراء آية (9). حيث إن وحدة المشاعر والآمال في هذه المناسبة العظيمة، هدف من أهداف هذه الفريضة التي نظمها وأعدها الإسلام وجعلها عبادة مفروضة في حياة المسلمين كافَّة. فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: {بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا} رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم، من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه} رواه البخاري ومسلم. وأخيراً على كل حاج وحاجة يفد إلى هذه الأراضي المقدسة أن يتذكر جيداً بأنه يمثل وطنه، فإذا تحلى بآداب الإسلام واقتدى بهدي نبيه محَّمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وأخلاقه العالية فإنما يعطي صورة ناصعة ومشرقة عن أهله ووطنه وصفحة واضحة عن دينه وفهمه لقواعد إسلامه، ويضرب من نفسه القدوة ليحذو الآخرون حذوه، وبذلك يساهم مساهمة فعَّالة في تأدية هذه المناسك بانتظام وهدوء وخير عميم.
وفي الختام: أدعو الله تعالى لحجاج بيته حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعوداً محموداً... وصلى الله تعالى على محمد النبي الأمي وسلم تسليماً كثيراً!
والله الموفِّقُ والمعين