إبراهيم بن سعد الحقيل
إن السؤال الذي لا بد أن نسأله بعد أن انتهينا من توصيف هذا الاستلاب: كيف استلبت المعرفة، وهي أمام أعيننا؟
لعل أهم أسباب ذلك الاستلاب:
1- المعرفة العربية في القرون المتأخرة معرفة تقدّس الاستحضار والتكرار أكثر من معرفة تسعى للإبداع، ولا شك أن المعرفة تحتاج في أول مراحلها إلى إطلاع وحفظ، لكن هذا الحفظ يجب ألا يتجاوز مرحلة عمرية؛ فيَحْجب فيها العقلَ، ويحول الإنسان إلى كائن ببغائي، يردد مقولات مما حفظ ووعى، فيتحول هذا الترديد إلى هذر واجترار، حتى يصبح المهذار عالماً بما يحفظ لا بما يُبدع، لأن الإبداع عزيز، والحفظ والاستحضار موجود بالفطرة مع تفاوت بين الناس فيه، فإذا لم يطوع متلقي المعرفة مَلَكة الحفظ والاستحضار لتصبح وعاء للإبداع فسيمكث طويلاً أو طوال عمره في دائرة الهذر والثرثرة، ومع كل ثرثرة معرفية يصدر أحكامه بناء على أقوال السابقين الذين يحفظ ويردد أحكامهم وتحليلاتهم، وهذه القناعات والتحليلات وسبر الأغوار صدى وظِلٌّ لمن سبقَه، وإن انبرى في اندفاعه شجاعة فستأتي طروحاته وتحليلاته انطباعية بحتة، وليست مبنية على رؤية تحليلية مُقعَّدة، خرجت من تحت مشرط ناقد ماهر مُتَّزن، بل هي فقَّاعات تُخْرج ما اكتنزَ من حفظ وتكرار معلوماتي وليس معرفياً
2- الكسل الذي خيَّم على الأوساط العلمية؛ حتى أخذ بخناق الإبداع، تلك الأوساط العلمية أصبحت مشروعاتها المعرفية صورة مكررة بل كربونية، لا تخرج عنها قيد أنملة فهي تكرس الجمع والتكديس المعرفي أكثر من أن تنحى منحى الإبداع، ومثال هذا مشروعات علمية بذل فيها وقت وجهد ومال تكرر عملاً لا طائل منه، ومثل ذلك كتب كثيرة يعاد طبعها دون أن يلتفت مؤلفها إلى ما كتب عنها، ومثل ذلك الرسائل العلمية التي تفوق الحصر كثير منها - ولا أقول كلها - تهتم بنواحي الجمع والاستقصاء وتركز على الإحالات والهوامش والمراجع والمصادر دون النظر إلى حجم الإبداع في هذه الرسالة، فرسالة في التاريخ تستقصي وتجمع وترهق الدارس في ذلك لكن هذا الدارس لا وجود له في هذه الرسالة، ومثل ذلك في بحث مسألة فقهية، يجمع الدارس الأقوال والأدلة ثم يختم ذلك بأن الجمهور قالوا كذا ويغلق البحث، وكأن هذا قصارى جهد الباحث، وقل مثل ذلك في كثير من رسائل الفنون الأخرى.
3- ضعف الصحف الورقية والقنوات التلفازية والمواقع الإلكترونية في نشر المعرفة، فهي تستنسخ تجارب غيرها وتطبقها مع اختلاف الزمان والمكان، ولا تبذل أدنى جهد في تلمس مسارات جديدة في عالم المعرفة، فالوجوه هي الوجوه، والموضوعات هي الموضوعات، مع ما تضعه من خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها من عندها وليست من عند السلطة، فهي تضيف خطوطاً أخرى تخنق المعرفة في شرنقة الممنوع والمسموح، إضافة إلى ما فيها تكرار واجترار.
4- ضعف وعي القوى المجتمعية بأهمية المعرفة في خلق الإبداع الذي لا يأتي إلا بأن تُعطى القوس باريها. وهذه القوى المجتمعية سواء التابع منها للدولة أو المؤسسات الأهلية؛ العلمي ومنها وغير العلمي تتفنن في حرف القوس عن باريها، تارة في اختيار الموضوعات، أو تحديد مسارات المعرفة المستهدفة، وتارة بإثارة اللغط حول موضوع مستهلك لا طائل من الحديث فيه، مما تجاوزته المعرفة، بل والزمن برمته، وثالثة بأن تعطي القوس لمن يجعل القوس مطرقة أو ساطوراً فيكون إبداعه التحطيم دون أي أثر للإبداع.
5- الإلحاح بالحديث عن الماضي الذي مضى وترك الحديث عن المستقبل المقبل، ومن المعلوم أن الحديث عن الماضي بما فيه من إبداع وعلوٍ أكلَ عليه الزمان وشرب حتى استحال كثير من إنجازاته تاريخاً يحكى للتأريخ وليس لقراءة المستقبل وتوجيه الحاضر إلى مستقبل زاهر، لأن الزمان برمته تغير حتى الأرض التي نعيش عليها، فلا يحمل الحديث عن الماضي لأجل الماضي أي معرفة، لأن معرفة الماضي وإن كانت وطاء لفهم المستقبل لكنها ليست هي المعرفة التي نستطيع بها أن نبني بها مستقبلاً مشرقاً، فنحن نكتب ونقرأ بما خطه الأولون وهذا من إبداعهم، ولكن ليست كتابتنا مثل كتاباتهم، ولا أساليبنا مثل أساليبهم، ولا وسائل التواصل مع المجتمع مثل وسائلهم، كل ذلك تغير فلا بد أن نتغير في أفكارنا وأساليب التعامل مع المعرفة الجديدة التي تختلف عن المعرفة القديمة في مناحٍ كثيرة وتتفق في مناحي قليلة، لعل أهمها أن الإبداع المعرفي لا يأتي إلا بهضم القديم والبناء عليه، ليس هضمَ اجترار وتَغَنٍ به، بل هَضمَ بناءٍ وتَجاوُزٍ، لأن الإنسان يبني قديماً بيته بالطين والحجر ويبنيه بحسب معارفه وموارده، وكان مبدعاً في ذلك المجال في صور شتى ماثلة بين أعيننا، إبداعاً خلب الألباب في بعضه، وكان للشفقة نصيب منه في بعضه، فنحن ندرس مناحي إبداعهم ونبني عليها، ولا نبني كما بنوا من طين وحجر. فالإبداع يقرأُ المستقبلَ ويسعى إليه، واجترار الإبداع الماضي ارتكاس في ماضٍ مضى، وكما أن الأديان السماوية تبني على البناء السابق، وتعدل المسار القديم، فكذلك يجب أن تكون المعرفة الإبداعية.
إن الحديث عن الماضي وإنجازاته في هالة من التقديس يفضي إلى تقديس الآراء السابقة، وتصنيم أصحابها، مما يجعلها في منزلة فوق مستوى النقد، وكأنها وحي الله المنزل أو قول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الصحيح، فنصبح ندور في فلك حوار بيزنطي حولها وحولهم، ويفضي ذلك الحوار أحياناً إلى التشنج والحرب الضروس.
5- الميل إلى مخاطبة العواطف ودغدغة المشاعر، وإراحة العقل، حتى نكاد أن نثمل من ذلك وننسى واقعنا الأليم، هذه الثمالة هي التي تجعل مداعبة العواطف وإرضاء الغرور في أنفسنا مفتاحاً سحرياً لمن اتخذوا الهذر والحديث في ما لا يعرفون للولوج إلى عوالمنا، ودغدغة مشاعرنا، وأسْرِنا في ثمالة لا يُخْرجنا منها إلا عقلٌ فَطِنٌ، وميزان عقلي يستبطن المصلحة ويُعلي شأنها، ويطرح العاطفة التي لا مكان لها في عالم المعرفة. وعالم المعرفة يعلو بالمنجز العلمي سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية، لهذا لا تزال مفردة «كُنَّا» حاضرة بقوة مع سياق شواهد عليها، فيما تغيب مفردة «نحن» إلا في دائرة التباكي ورثاء الحال.
لا أظن أن هذا المقال القصير كاف لتجلية الأسباب وبيانها، وإنما هو نفثة مصدور، وإلماحةُ مجتهدٍ، لعله يكون مصيباً فيما ذكر.