أكل الشبعان مع الضيف لإيناسه
* هل يدخل في باب الإسراف إذا أكلتُ مع الضيف وقد نزل بي بعد أن تعشيت وشبعت، ولا سيما أن أكلي معه لا لحاجةٍ، بل لإكرامه ولكي لا يستوحش وينْفُرَ من الطعام؟
- إذا أكلت من باب إيناس ضيفك وإدخال السرور عليه لا شك أنك مأجور على هذا القصد، لكن يبقى أنك إذا كنت تتضرر بهذا الأكل بالقدر الزائد على ما تطيقه وتحتمله لا شك أنك آثم، وحينئذٍ لا يجوز لك أن تأكل، أما إذا كنت لا تتضرر به وأكلت إيناسًا له وإدخالاً للسرور عليه فأنت مأجور إن شاء الله تعالى، ولا مانع أن تريه أنك تأكل، ولا مانع أن تشتغل بما يصعب مضغه بحيث تأكل شيئًا يسيرًا في مدة طويلة، وتريه أنك تأكل وتشاركه في الأكل وتدخل السرور عليه بحيث لا تتضرر وتقوم بإكرامه وإيناسه، هذا لا شك أنّه أولى وهو الجمع بين الأمرين.
* * *
الفرق بين المجاملة، والمداهنة، والمُداراة
* ما الفرق بين المُجاملة، والمُداهنة، والمُداراة؟
- المُداهَنَة: الملاينة من أجل التنازل عن كلمة حقٍّ أو الجُرأة على باطل {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، فالمُداهِن يتلطَّف بالمُداهَن؛ لِيُقرَّه على باطله، ويتركه على هواه، بخلاف المُداراة.
فالمُداهنة صفة ذم، والمُداراة صفة مدح، والفرق بينهما أن المُداري يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل. فالمُداراة لأهل الإيمان، والمُداهنة لأهل النفاق، وفي (صحيح البخاري) ترجم الإمام البخاري بقوله: «باب المُداراة» [8-31]، وهو بغير همزٍ بمعنى: الملاينة والمجاملة، فتبيَّن من هذا أن المجاملة والمداراة معناهما واحد، وهما صفة مدح، بخلاف المُداهنة التي يُلايَن مع المُدَاهَن؛ حتى يقول باطلًا أو يسكت عن حقٍّ.
والرسول -عليه الصلاة والسلام- استأذن عليه مَن استأذن، فقال: «بئس أخو العشيرة»، فلمَّا دخل وجلس معه انبسط معه في الكلام [البخاري: 6032]، فاستُدِل بهذا على جواز المُداراة بخلاف المُداهنة، كما في قوله -جلَّ وعلا-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، ودوا أن تتنازل عن شيءٍ من الحق فيتنازلون معك في إجابتك إلى بعض ما تقول، فالحق لا مداهنة فيه، ولا تنازل عنه، كما أن الباطل لا مداهنة فيه، ولا استجابة له.
ونظير ذلك في المُداراة والمُجاملة والمُداهنة: الحِيلة، فإن كانت هذه الحيلة للتوصُّل إلى فعل الطاعة، أو التوصُّل إلى ترك المعصية فهي شرعية، ومنه قوله -جلَّ وعلا-: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98]
لا يستطيعون حيلةً يتخلَّصون بها من المنكر الذي هم عليه، فهؤلاء معذورون؛ لعدم الاستطاعة، لكن إذا كانت الحيلة للوصول إلى باطل، أو للتوصُّل إلى ترك حق، فهذه حِيَل اليهود الذين أُمِرنَا أن نخالفهم «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» [إبطال الحيل: ص46].
يقول ابن بطَّال فيما نقله ابن حجر في (فتح الباري):(المُداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المُداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المُداراة مندوبٌ إليها، والمداهنة مُحرمة. والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يَظهر على الشيء ويَستر باطنه، وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكارٍ عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألُّفه ونحو ذلك).
ومثل هذا يُحتاج إليه في مسألة الحوار مع المخالفين، فيُدَارى المخالف حتى يستجيب لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، لكن لا يُداهَن بالتنازل عن شيءٍ مما أوجب الله، أو ارتكاب شيءٍ مِما حرَّم الله. فإن كان الحوار في إطار المُدَاراة فلا شيء فيه وهو من أخلاق المؤمنين، وإن كان داخلًا في حيِّز المُداهنة فهو محرَّم، ولا يجوز ارتكابه، والله أعلم.
** **
يجيب عنها معالي الشيخ الدكتور/ عبدالكريم بن عبدالله الخضير - عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء -سابقاً-