أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
أشرنا في المساق السابق إلى التخبُّط إلى أقصى اليسار للقول بعَرَبيَّة كلمات غير عَرَبيَّة، أو استدراج دوارج خالصة إلى الفصحى، الذي يذكِّرنا بتخبُّط معاكس إلى أقصى اليمين، يحاول أن ينسب كلمات عَرَبيَّة، بل قرآنيَّة، إلى لغات أخرى. ومن ذلك ما تقدَّم ذكره حول كلمة (زخرف)- التي وردت في «القرآن»، وبها سُمِّيت سُورةٌ من سُوره، هي (سُور الزُّخرف)- فجاء من زعمَ أنَّها من أصولٍ أجنبيَّة مستورَدة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. وقلنا إنَّ (طَرَفةُ بن العَبْد)(1) قد صفع هذا المدَّعي ببيته:
أتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ
كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ
فاستعملها فعلًا مشتقًّا؛ فأين من عينيك ذياك الجمود؟! كما قال (المُرَقِّش الأكبر)(2):
تَنَزَّلْنَ عَنْ دَوْمٍ تَهِفُّ مُتُونُهُ
مُزَيَّنَةٍ أَكْنافُها (بالزَّخارِفِ)
وقال (أَوس بن حَجَر)(3):
تَذَكَّرَ عَيْنًا مِنْ غُمازَةَ ماؤُها
لَهُ حَبَبٌ تَسْتَنُّ فِيهِ (الزَّخارِفُ)
وقال (ثعلبة بن عمرو العَبدي)(4):
لِمَنْ دِمَنٌ كَأَنَّهُنَّ صَحائِفُ
قِفارٌ خَلا مِنْها الكَثِيبُ فَواحِفُ
فَما أَحْدَثَتْ فِيها العُهُودُ كَأنَّما
تَلَعَّبُ بِالسَّمَّانِ فِيها (الزَّخارِفُ)
أتكفي هذه الشواهد من الشِّعر الجاهلي، أم نزيد؟!
غير أنَّ صاحبنا المدَّعي لم يسمع بكلِّ هذا الشِّعر الجاهلي؛ إذ ذهب إلى أنَّ مادَّة (زخرف) من أصولٍ غير عَرَبيَّة، ظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. كما زعمَ أيضًا أنَّ كلمة (سيمة) غير عَرَبيَّة؛ لأنه كذلك لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي، وهو إنْ لم يعثر على لفظٍ في الشِّعر الجاهلي، فليس بعَرَبي، قولًا واحدًا، رُفعت الأقلام وجفَّت العقول!(5) ولا أدري أيَّ شِعرٍ جاهليٍّ يبحث فيه صاحبنا؟! لأنَّ (عَدِيَّ بن زيد العِبادي)(6) بدَوره سيخرج عليه ليصفعه ببيته:
بانَ الشَّبابُ فَما لَهُ مَرْدُودُ
وعَلَيَّ مِنْ (سِمَةِ) الكَبِيرِ شُهُودُ
وهذا الشاعر من أقدم الشعراء في العصر الجاهلي، وليس من الإسلاميِّين، أو حتى من المخضرمين بين الجاهليَّة والإسلام. ولذا يبدو كذلك أن باحثنا المتبحِّر في تاريخ العَرَبيَّة لم يصله صوت ذلك الشاعر القديم في استعمال الكلمة، وقبل مجيء «القرآن»، بأمدٍ بعيد. ولن نشير إلى شعراء جاهليِّين آخرين أقل شهرة استعملوا تلك الكلمة، مثل (ابن زائدة التَّغْلبي)(7) القائل:
نُقارِعُ مِنْ مَعَدٍّ ما اسْتَطَعْنا
ونَحْمِي العِرْضَ مِنْ (سِمَةِ) الهَوانِ
أو قول (أُسَيْد بن عَنْقاء الفَزاري)(8):
غُلامٌ رَماه الله بالحُسنِ يافعًا،
لَهُ (سِيمِياءٌ) لا تَشُقُّ على البَصَرْ
والكلمة، بعد هذا، على علاقة اشتقاقيَّة كُبرَى بمادَّتَي (وسم) و(سما). اللتين جاء منهما: الوسم، والاسم. يقول العَرَب: وسَمَ وَسْمًا وسِمةً، إذا أثَّر بسِمةٍ، بكَيٍّ وغيره. وتوَسَّم فيه الشيءَ: رأى فيه أَثرًا منه، وتَفَرَّسَه، من الوَسْم، والسِّمَة والعلامة. واسمُ الشيء، وسَمُه، وسِمُه، وسُمُه، وسَماهُ: علامَتُه.
- 2 -
على أنَّ الأمر في هذه الكلمة- كما ذكرتُ في بحثٍ لي قديمٍ في النقد الأدبي، بعنوان «الإشارة- البِنْيَة- الأثر (قراءة في «دلائل الإعجاز» في ضوء النقد الحديث)»(9)- يتعلَّق بمشترَك لفظيٍّ بين العَرَبيَّة وغيرها. ولذلك اقترحتُ في بحثي المشار إليه مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ من حيث إنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي العلاقة بالكلمة الإغريقيَّة Semion- مبنًى ومعنًى. ف«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْما» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، ك(علامة)، و(إشارة)، اللذين يُعجبان العَرَب والمعَرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والْبَنِينَ، والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والْفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ»، (سُورة آل عمران: الآية 14). وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»، (سُورة الذاريات: الآيتان 33- 3 4). وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ»، (سُورة الأعراف: الآية 46). كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»، (سُورة الفتح: الآية 29).(10) حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلَح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic». من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622ه)، في الفصل السابع والثلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى». قال (القرافي)(11): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواَّ أرضيَّة...». وهو ما لا علاقة لموضوع السيمائيَّة في اصطلاح النقد الأدبي به! فأَولَى به أن يستعمل مصطلح (سِيمَويَّة)، أو (سيمائيَّة)، لا (سيميائيَّة).
عِلمًا أنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرها، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم بهذا لأنَّه لم يعثر على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحَمْقَى والمغفَّلين؟! ليت شِعري، أ لأجل هذا غالى من غالى في الشكِّ في صِحَّة الشِّعر الجاهلي؟ ذلك أنَّ ثمَّة من إذا لم يجد كلمةً قرآنيَّةً في الشِّعر الجاهلي، قال، بفهاهة: إذن، هي غير عَرَبيَّة الأصل، وإذا كشفت له عن الكلمة في الشِّعر الجاهلي، قال: هذا شِعرٌ منحول، صُنع بعد الإسلام! منطقه منطق ذلك الأعرابيِّ المكابر صاحب «عنز ولو طارت!» وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَرَبيَّة من الألسنة- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه، من أولئك الذين يتعسفون في نسبة كلمة غير عَرَبيَّة إلى العَرَبيَّة. وبين الفريقين لافتة تقول: إنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشَر.
___________
(1) (2000)، ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.
(2) (1998)، ديوان المُرَقِّشَين: المُرَقِّش الأكبر، عمرو بن سعد (-57ق.ه)؛ والمُرَقِّش الأصغر، عمرو بن حرملة (-50 ق.ه)، تحقيق: كارين صادر، (بيروت: دار صادر)، 60/ 10.
(3) (1979)، ديوان أوس بن حجَر، تحقيق: محمَّد يوسف نجم، (بيروت: دار صادر)، 69/ 36.
(4) الضَّبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 281/ 1- 2.
(5) جاء هذا في ندوة «فرانكفونيَّة»، أيديلوجيَّة غير عِلميَّة، تحدَّث فيها أحد الباحثين «المرموقين»، فقال ما قال، بكلِّ ثقة، وكأنه ذلك البحَّاثة اللُّغوي الذي جاء ليكشف للعالم عن كلمات غير عَرَبيَّة في «القرآن»، إلى درجة أنه توصَّل إلى أنَّ الكلمات العَرَبيَّة نفسها، وغير المعَرَّبة، يحوم حول عروبتها الشكُّ أيضًا. والدليل؟ ليس أكثر من أنه لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي! ولأنه متبحِّر في هذا الميدان، فإنه ربما يقصد بالشِّعر الجاهلي السبع المعلَّقات، لا أكثر! وإلَّا فإنَّ ما يزعمه غير صحيح، كما بَيَّنَّا. ولا شكَّ أنه لم يكلِّف نفسه بفتح معجم في العَرَبيَّة، أو ديوانًا في الشِّعر، قبل أن يهرف بما قال؛ لأنه لو فعل، لخجل من زعمه الذي زعم. ولست أدري أهو أوَّل القائلين بذلك؟ أم هو يردِّد قول غيره كالعادة؟ وعمومًا، لا غَرْوَ أن تسمع مثل تلك الأحكام اللُّغويَّة «الرصينة» في ندوةٍ تتطرَّق إلى لُغة «القرآن» من عَرَبٍ لغتهم حين يتحدَّثون غير عَرَبيَّة أصلًا، بل خليطٌ من العاميَّة الأفريقيَّة والفرنسيَّة المشوهة، من خلال مؤسَّسة ذات تسميةٍ ماكرة ساخرة «بلا حدود»، لا تكاد تجد فيها طرحًا محترمًا، لا بمعيار المنهاج العِلمي المتجرِّد، ولا بغيره، وإنما هو «رَدْحٌ» أيديولوجي مكرَّر، من أسماء معيَّنة مكرَّرة، ينضح من وجهة استشراقيَّة واحدة، فتعرف نتائج ما سوف يقال قبل مقدماته، وكأن الشعار المشار إليه في التسمية «الإيمانيَّة بلا حدود» ما جاء إلَّا على سبيل المثل ا لعَرَبي، الذي ضمَّنه (ابن سهل الأندلسي) في بيت دالِّ:
هيهات لا تَخفَى علاماتُ الهوَى ::: كاد المُريبُ بأن يقول خُذوني!
(6) (1965)، ديوان عَدِي بن زيد العِبادي، تحقيق: محمَّد جبَّار المعيبد، (بغداد: شركة دار الجمهوريَّة)، 123/ 1.
(7) (2014)، حرب بني شيبان مع كِسرَى أنوشروان، برواية: بِشر بن مروان الأسدي، تحقيق: عارف أحمد عبدالغني، (دمشق: دار العراب/ دار نور حوران )، 95.
(8) ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم).
(9) شارك به الباحث في (مؤتمر جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000م). ثمَّ نُشِر في (سبتمبر 2000)، في (مجلَّة «جذور»، (النادي الأدبي الثقافي بجُدَّة)، العدد 4، المجلَّد 2، ص7- 32).
(10) ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)، (سما)، (وسم).
(11) (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام)، 4: 1288.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى- الأستاذ بجامعة الملِك سعود)