إبراهيم بن سعد الماجد
لم تُكتب كوصية موصٍ بمعناها الشرعي، ولكنها كانت تحكي مرحلة حياتية فيها الكثير من الدروس والعبر.
كُتبت بمداد من نزف قلب، ودمع عين، على صفحات بيضاء من إيمان قوي صادق، وحسن توكل وظن بالله الذي جعل عافية المؤمن في قلبه، فلا وجع مع إيمان صادق بأن الأقدار بيد الله، ولا عافية مع قلب ضعيف الإيمان، مهزوز التوكل.
(الموت، تلك المحطة التي ستنتهي عندها مسيرة الجميع، دون موعد مسبق ولا موقع محدد ولا ترتيب عمري، ولأسباب متنوعة، غير أن الله، وأجزم أنه أحب لي الخير ابتلاني بأشد الأمراض فتكاً بأقوى الأجساد لكنه أنعم علي بالبصيرة أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، ثم زاد فضله علي أن ألبسني لباس الرضا والتسليم، وأحلّ علي صبراً وتجلداً لست أبالغ حين أقول إنني معه أعيش أجمل أشهر حياتي وأكثرها شعوراً بحلاوة الإيمان)
كلمات تقشعر منها الأبدان.. كيف يعيش أجمل أشهر حياته، والمرض ينهش جسده؟! ليكون جوابه: حلاوة الإيمان ! يا لها من حلاوة نسأل الله في صلواتنا وخلواتنا بأن يذيقنا لذة الإيمان به سبحانه وتعالى.
ويقول (تحولت معها أنات الوجع لتسبيح خاشع ومرارة الصبر لتسليم ماتع وحلكة الغربة لنور ساطع، أبصرت بها أكثر الطرق المؤدية للقرب من اللطيف، تلذذت بمناجاته بصورة أشعرتني أن الله منحني فرصة أكبر لتصحيح مساري والانكسار بين يديه ليغفر زلاتي ويضاعف حسناتي، وأن يلهمني رشدي لأقف عند محطتي في خاتمة حسنة)
يا الله.. ما هذا الشعور العظيم الملهم لمن هم مازالوا يتقلبون في نعم الله صحة ورزقاً، لماذا لا يكونون مثله قبل أن يتمنوا فلا يقدرون! وهو الذي قدر بما يحمله قلبه من إيمان صادق، جعل من المرض نعمة قربته إلى الله وأشعرته بعظيم لطف اللطيف الحكيم.
فهد العمرو الذي رحل تاركاً لنا دروساً ايمانية عملية في غاية الأهمية، قاسى أنواع الآلام والأوجاع، ولكنه كان يحمل بين جنباتها قلباً ذاق لذة الإيمان، فكان ألم الجسد برداً وسلاما.
(كان طول المرض وتنامي شدته ساعة بعد ساعة ملهماً لي أن الحياة الدنيا فانية لا تستحق أن أبذّر ما تبقى لي فيها من أيام في مزيد غفلة فأعانني مولاي على طول القيام وأجرى لساني يلهج بذكره وشكره على ما أنعم به علي من فرصة تقويم، واستدراك أستعد به لما أمامي من رحيل له ما بعده من حساب ومفارقة أحباب)
ينهش المرض جسده، لكن قوة إيمانه جعلتنا نقرأ أصدق العبارات التي يمكن أن تُكتب في التذكير بالآخرة، فيا له من إيمان يتمنى كل منا مثله.
(تأملت ما جرى للكثير من الراحلين الذين تخطفهم الموت فجأة، وقد كانوا صحاح الأبدان في ريعان أعمارهم، فأيقنت أن مرضي هدية من ربي لأقدم عليه تائبا راضيا وتدبرت في حال الغافلين عن صالح الأعمال اللاهثين خلف سراب السعادة الدنيا المنشغلين أحياناً بتوافه الأمور عن عظيم ما أمامهم يوم لا ينفع مال ولا بنون، فأيقنت أن اشتداد ما أصابني وتنامي انتشاره في جسدي حتى أنهكه إنما أيقظ قلبي وأنار طريقي وأذاقني لذة الصبر على أقدار الله، والتسليم لما قضاه والرضا بحكمته بل والفرح بها)
يقظة القلوب الكل دوما يسأل الله ذلك، ولكن القليل منا من يدرك أن يقظة القلب ليست بالتمني ولكنها بالتحلي، فمن لم يستيقظ قلبه مع المصيبة، فلا أمل أن يستيقظ مع النعمة ! ويقظة القلب الحقيقية هي كما قال فقيدنا فهد تنير الطريق وتذيق الانسان لذة الصبر على أقدار الله.
وهنا وصيته لأهله ولنا جميعاً:
(ولأني قد لا أتمكن من محادثتكم على الصورة التي آملها مع هجمة الأوجاع حتى على أحرفي التي أشعر أنها بدأت تتمنع عن قلمي ولسانيـ ولأن رسالتي لن تبلغكم إلا بعد رحيلي أوصيكم وصية مودع محب هي رجع صدى لوصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة، ولأن كل منا يتناوشه التقصير فاحرصوا على النوافل وتلذذوا بمناجاة اللطيف حين يناديكم في الثلث الآخر من الليل، هل من تائب فأتوب عليه.. هل من مستغفر فأغفر له.. هل من سائل فأعطيه، فقد تلاقي باب إجابة مفتوحا فو الله إنها السعادة التي لم أجدها في كل أبواب الدنيا فالموت أمر محتوم لاشك في هجمته وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)
رحمك الله أبا عبدالله، وأحسن عزاء والديك وزوجك وولدك وكل محبيك، عرفوك أو لم يعرفوك.