الحيوان الحكاء هو عنوان كتاب عميق وممتع للمؤلف والأكاديمي الأمريكي جوناثان غو تشل، طُبع عام 2018 عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات تكوين، وهو كتاب من الحجم الكبير بعدد صفحات تجاوزت المائتين وعشرين؛ حيث قدم فيه الكاتب رؤىً متعددة الأبعاد للإجابة على سؤال جوهري هام وهو : كيف تصنع منا الحكايا بشراً ؟ ليأخذنا بعدها في رحلة بحثية عميقة نحو البناء الهيكلي للقصة ذاتها، بتشريح مفصل لكلّ جزء منها، ملقياً بظلال سرده على كيفية تجذر تلك الحكايا داخل منحنيات دقيقة جداً من تفاصيل حياتنا بشكل مترابط وعجيب؛ ليصل بتدرج ذكي إلى جزئيات كوّنت في نهاية المطاف إجابة السؤال العام.
لوهلة قد يظن القارئ أنه سيكون على موعد مع كتاب علمي بأسلوب أكاديمي جاف يسرد تاريخ القصة من بدايات تطورها وحتى شكلها الحالي، لكن يبدو أن الكاتب فضل أن يمارس سحر الحكاية على قرّائهِ، أولاً من خلال سرده القصصي الماتع لإيصال زخم المعلومات المعقدة بأسلوب شيق وسلس مليء بالدهشة وغني بالمعرفة وبتقسيم الكتاب إلى ثمانية فصول تناقش مختلف جوانب القصة سواء التاريخية ، الأدبية ، العلمية ، النفسية ، العقلية ، الأخلاقية ، الدينية ، الفلسفية والكتابية، الأمر الذي قد يجعل القارئ يتساءل : ماذا بقي منا لم تطله الحكايا؟
ففي الفصل الأول الذي عنونه الكاتب بسحر الحكايا، كان حديثه شاملاً عن مدى تغلغل القصص في بنيتنا الإنسانية بداية من تجمع الانسان البدائي حول النار لسماع الأساطير والثرثرات مروراً بالحكواتي في الأزمنة السابقة، وكيف تداخلت القصة بعدها في كل أنواع الفنون تقريباً كالتمثيل والمسرح وأفلام السينما و وبرامج الواقع، كذلك الحال في المصارعات الحرة والألعاب الالكترونية الأمر الذي تعيه جيدا وكالات الدعاية الإعلانات وشركات التسويق الكبرى وأصحاب العلامات التجارية.
أما الفصل الثاني الذي تحدث فيه عن أحجية القصة، إذ أدخل فيه جانباً من حياته الشخصية عن طريق صور ابنتيه ابيغيل وانابيل وتأثره الشديد برواية بيتر بان والأولاد المفقودين وغيرهم من الكائنات الأسطورية ؛ ليقودونا بعدها للحديث عن المخيلة ودورها الساحر في خلق الحكايا ،موغلاً نحو تفاصيل أكثر دقة عن خيالات الأطفال الخصبة ومن أين يأتي الدمع والدم في ألعابهم؟ وهل من الممكن أن تكون مجرد صدى للمأزق الي يجده الطفل في حكاياتنا له؟
أما عن جحيم الفصل الثالث الذي بدأه باقتباس الشاعر الأمريكي روبرت بنسكي عن قصيدة القلب المحطم؛ إذ يقول « مثلما يصور الفيلم مختلاً يرتدي قناع هوكي ويقطع أعضاء الناس بمنشار جنزيري مثل هاملت بكل ما فيها من قتل و انتحار وسفاح محارم وأعمال عنف ونزاعات عائلية، يمكن لقصائد الموت والفقد أن تسعد القارئ أيضاً «ثم استطرد حديثه عن الأدب الموغل وعن تلك الصراعات التي يتورط فيها جميع الأبطال في كل الحكايا بشكل عام، مشيراً الى أن كلّ القصص والروايات التي كُتِبت منذ جلجامش حتى اليوم تدور حول فلك المتاعب، ليس فقط لأن الصراع هو عنصر من عناصر البناء السردي فحسب، بل لأن اختلاق المشاكل والتفاصيل المشوقة في كيفية الخروج منها في عالم الأدب يعني وجود «حبكة» وهي نقطة الارتكاز التي تبنى عليها بقية الرواية.
في الفصل الرابع يشير إلى توغل القصة نحو ظلام الليل حين نغمض أعيننا للنوم ، وحديث مستفيض عن عالم الأحلام وعلاقته الوطيدة بعالم الحكايا، وأن الأحلام ماهي إلا حكايا ليلية نقصها على أنفسنا في اللاوعي وكيف فسرها القدماء على أنها رسائل من عالم الأرواح، بعكس فرويد الذي كان يرى أنها إرواء مستتر لرغبات مكبوتة وفرانسيس كريك الذي يرى بأنها نظام تصريف قاذورات الدماغ مثلها مثل نبض القلب أو غرغرة المعدة لا معنى لها، ومن طريف ما ذكره في هذا الجزء قوله « جميعنا تقريباً نحلم في نومنا لما يقارب الساعتين يومياً، وهو ما يُعادل ست سنوات كاملة، وبذلك بوسع النّاس المُمِلين أثناء النهار أن يكونوا خلاقِين ليلاً».
انتقل في الفصل الخامس للحديث عن «العقل الحكاء» وهو العقل المدمن على المعنى، إذ إنه لا يستطيع استيعاب العشوائية أو العبثية في تفسير ما يحدث له وما يدور من حوله، فيلجأ لاختراع المعاني عنوة بإقامة علاقات بين أمور لا علاقة حقيقية بينها بالضرورة للوصول إلى استنتاجات مرضية يمنطقها كيفما أراد ، وقد تكون مبالغات تصل به حد التورط في عقلية «المؤامرة» إذا ما اعتبرنا أنها إحدى الأعراض الجانبية لذلك الإدمان .
أما في الفصلين السادس والسابع، فكان الحديث عن الأخلاق في الحكايا ومدى تأثيرها الكبير على جميع الأديان السماوية متمثلاً في الكتب المقدسة؛ ليعرج بعدها على الفلسفة وأدب كافكا و دوستويفسكي، وأهمية صناعة القصص والحكايا لثقافة ومشاعر الشعوب وموروثاتهم ودورها الكبير في صناعة الرأي العام، واستدل بذلك بِرواية «كوخ العم توم» والتي أدت لإشعال الحرب الأمريكية الأهلية كذلك التعطش للمجد الذي أكسبته «الإلياذة» للإسكندر الأكبر وكيف كانت الحكايا سببًا في قتل ستين مليون إنسانا حين تأثر أحدهم بقصة عن الجمال والفن « هتلر» !!
وفي فصله الأخير «مستقبل الحكايا» والذي كتبه بتفاؤلٍ كبيرٍ عن نظرته المستقبلية للأدب بالرغم من انتشار وسائل الترفيه الحديثة من تقنيات رقمية وألعاب الفيديو ستؤدي بشكل أو بآخر نحو قتل الأدب قتلًا صامتاً، الأمر الذي اعتبره أمراً طبيعياً جداً وغير مفاجئ ,حتى أوصلنا في النهاية إلى نقطة جيّدة عن موقع وجود الحكايا من عالمنا عندما قال « إن الأدب هو تقنية قديمة لواقع افتراضي، تخصص في محاكاة المشاكل البشرية»
في الختام، يمكن القول إن كتاب « الحيوان الحكاء» أعاد صياغة فهم الإنسان، إذ لم يعد الإنسان حيوانًا اجتماعيا أو ناطقًا فحسب، بل هو حيوانٌ حكّاء؛ يفهم ويُفهَم للعالم من خلال القصص التي تروى عنه وله ومن خلاله، وأن الحكايا ليست مجرد ترهات تلوكها الألسن، بل هي شكل من أشكال الصمغ الاجتماعي الذي يجمع الناس حول قيم مشتركة كما عبر عنها جون غارد نر، كما يمكن أن يكون هذا الكتاب البحثي بمثابة انتصار للروايات أمام تيار التسطيح الذي يرى أنها بلا فائدة، نحن كائنات قصصية مدمنة حد النخاع على سماعها وتخيلها وتركيبها وفهمها وتناقلها والعيش من خلالها، نحن نحيا ونموت، نحب ونكره ، نتجمل ونتدين، نرقص ونقتل، نغني ونغضب بالقصص والحكايات !!
** **
- صباح عبدالله