تغريد إبراهيم الطاسان
في ظل المتغيرات الدولية في الإعلام والاتصال، ومع التغيرات التي طالت نمط الحياة والتفكير الاجتماعي والمجتمعي، وفي ظل تقلص حيز مركزية دور السلطة الأسرية كموجه ومعلم وقدوة للأجيال الجديدة، أصبح المصدر الأقوى لإنتاج القيم التربوية وصناعتها وتشكيل الوعي التربوي للأطفال داخل المجتمع السعودي يأتي عن طريق منصات التواصل، حيث أصبح في وسع البث عبر الإعلام الجديد أن ينقل المادة التربوية الجديدة لكل فئات المجتمع بيسر بالغ، تضيع معه العادات والأعراف والقيم التربوية القائمة على أساس من الدين والفطرة والهوية المجتمعية.
فتيار العولمة والحداثة والانفتاح والتواصل الحضاري والثورة الرقمية الجارف، أصبح يقتحم اليوم الخصوصيات الثقافية والفكرية للأطفال تحديداً، عبر وسائل الاتصال المتطورة والمتنوعة ذات التشويق والإثارة، التي تعمل على كسر الحواجز الجغرافية والعقائدية بين الأقطاب والمراكز المجتمعية والثقافات المتباينة في العالم، وبسبب هذا تواجه اللغة العربية اليوم تحديات كبيرة تهدد خصوصياتها نطقا وكتابة ولغة حوار وتفاهم بين الأفراد والشعوب.
تعد (الازدواجية اللغوية) التي أصبحت واقعاً ملحوظاً في مجتمعاتنا العربية بالذات، من أخطر التحديات التي تواجه الأسرة وأشدها استعصاء على ملكات التلقي عند الطفل، ويقصد بها تعدد مستويات الأداء اللغوي في ظل لغة واحدة أو لغات متعددة، أي في إطار لغوي واحد، ليجد الطفل نفسه في تخبط وبعد عن اللغة العربية الفصيحة، وذلك لبعد لسانه عن أصلها واعتياده الكلام بغيرها من اللغات العامة أو الأجنبية المنتشرة داخل المجتمع والأسرة التي يعيش فيها.
وعليه أصبح الطفل في بعض مجتمعاتنا يعاني اليوم مشكلة تكمن في افتقاده التنشئة اللغوية السليمة، فاقداً لأصالة اللغة العربية ومتغيرات زمن المعرفة، وفي هنا تهاون الأسرة بدورها في التوجيه اللغوي، والمتابعة التربوية الواعية، وسلمت الدور لمؤسسات تعليمية تجمع ثقافات شتى، ولغات مختلفة، مما جعل الطفل يمر بتحدٍّ أعلى مستوى من (الازدواجية اللغوية) وأكثر تعقيدًا، ألا وهو(الثنائية اللغوية) إذ ينشأ الطفل في بيئة تستخدم مصطلحات لغوية أجنبية عن لغته، أو تكون تنشئته في مدارس عالمية تختلف لغة مناهجها التعليمية عن لغته الأم،ليجد الطفل نفسه بين لغة مستعملة في العملية التعليمية،وأخرى متداولة في بيئته الأسرية والاجتماعية.
إن تهافت الأسر على تدريس أطفالهم منذ الصغر على اللغات الأجنبية، يجعل مجتمعنا وثقافتنا تخسر الكثير وتصبح مهملة وبلا قيمة وأثر في نفوس النشء، لذا نتمنى من صاحب القرار التعليمي، ألا يسمح بتدريس لغة غير اللغة العربية إلا بعد أن يكمل الطفل إتقان لغته العربية الأصيلة جيداً، ويجعلها أساس حياته ولغة الحوار والتفاهم بينه وبين الآخرين.
فمما يزعج ألا يستطيع الكبار في العائلة التواصل مع صغارهم، فلا يمنحونهم تجاربهم ولا خبراتهم، ولا يسمعون لأسئلتهم وحيرتهم، لأن اللغة هي أساس التواصل والفهم والقدرة على صياغة الحياة.
وبالإضافة إلى التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي تضفيها وسائل الإعلام والاتصال على صغارنا لغوياً وفكرياً، والتي تمخضت عن التحولات والمتغيرات المجتمعية العالمية، غير أن هناك تأثيرات ذات خصوصية بالغة الخطورة على الأطفال داخل المجتمع السعودي، فقد يحصل الطفل بسبب فقدانه للتواصل بلغته الأم، على معلومات مغلوطة ومشوهة من مواقع غير مدققة علميًا وذات فكر لا يمثلنا، الأمر الذي يسبب للطفل ارتباكاً معرفياً، فضلًا عن إهدار قدر كبير من الوقت بما يشغلهم عن الانخراط في أنشطة حياتية ضرورية، يكون لها مردود طيب على صحتهم وتواصلهم الاجتماعي.
إن فقدان الحديث باللغة العربية وفهمها، نذير بإصابة الطفل بما يسمى العزلة الاجتماعية أو الانطواء، وذلك بسبب العالم الافتراضي الذي يكتفي به في هذا العالم الخيالي المبهج، الأمر الذي يحوله في النهاية إلى طفل افتراضي يعيش الوحدة ويميل إلى العزلة وينفر من الواقع وبفقد التواصل الذاتي البين، وتكون كل حياته من خلف شاشة دون تمييز لثقافة أو جنس، وذلك يأتي على حساب أنشطة اجتماعية عديدة يحتاج إليها الطفل، مثل التفاعل مع الآخرين، والتواجد معهم والتأثر بهم ومحاكاة سلوكهم وتشرب العادات الاجتماعية، والقيم الأخلاقية من البيئة المحيطة به.
ولا شك بأن كل هذه التحديات الرقمية التي أصابت مجتمعاتنا ترجع في المقام الرئيسي إلى استطاعة وقدرة الإعلام والاتصال بآلياتهم الجديدة والمتطورة، ومن خلال الخصوصيات التي يتمتع بها والتي مكنته من تجاوز الكثير من المشاكل والعيوب التي واجهها الإعلام التقليدي وتخطي حدود الزمان والمكان ليصل وبسهولة وانتشار قوي، إلى أعداد هائلة من الأطفال بتكاليف أقل ومردودية أعلى وتأثير أكبر على المكون الفكري والثقافي للمجتمعات البسيطة ذات النظام التقليدي، فبات بإمكانه تجاوز الإعلام التقليدي وتهدده بالزوال وتجعله بلا حضور ولا أثر.
لذا نحتاج لإعادة تحديث يعالج نمط التفكير الاجتماعي الذي انجرف خلف بريق اللغات الأجنبية وأن يربى أبناؤنا على ما كان عليه آباؤنا لتكون اللغة العربية هي الأساس..
كذلك نحتاج إلى يبئات أسرية وتعليمية تعمل يداً بيد لغرس العقيدة والقيم والثقافة المجتمعية الأصيلة في قلوب الأبناء منذ الصغر بلغة عربية مبسطة.
ونحتاج إلى الاستفادة القصوى من الجهود التي تعمل عليها المؤسسات والجهات المختلفة في القطاع الحكومي والخاص من أجل تعزيز الهوية الوطنية والمجتمعية والانتماء إليها من خلال مشاركتنا فيها وترغيب أبنائنا فيها، وذلك لمواجهة تحديات مواقع التواصل، وتعزيز السلوك الإيجابي بهوية سعودية أصيلة ولغة عربية سليمة.