خالد بن حمد المالك
من باب العلم بالشيء كما يقال، تابعت خطاب رئيس وزراء إسرائيل في الكونجرس الأمريكي فهالني ما شاهدته وما استمعت إليه، وأثارتني أجواء المسرحية بين مُصدّق ومُكذّب.
* *
تساءلت: هل كان ذلك في أمريكا، وفي أكبر وأهم مؤسسة تتحكم بالعالم، أو أننا في مسرحية وجد فيها الحضور ما يستحق كل هذا التصفيق والجلوس والنهوض مع كل هذا الكم من الأكاذيب، وكأن الحضور مغيبون من الحقائق.
* *
أحياناً كنت أتصوّر أننا في مدرسة في دولة مُتخلّفة، يلقي الأستاذ على طلابه دروساً في القيم والأخلاق والإنسانية، وعليهم أن يصدقوه ويعاضدوه، وألا ينكروا جرائمه وقتله للأبرياء وإن لم يفعلوا فلن ينجو طالبٌ واحد منهم من الرسوب.
* *
لقد ظهر أعضاء الكونجرس -كما شاهدنا ضعفاء - لا يملكون القدرة في مواجهة قاتل النساء والأطفال بالأرقام والحقائق، بل إنهم تعاملوا معه على أنه المنقذ الوحيد لأمريكا من معاناتها، وهو يقول لهم: إن إسرائيل لا تحمي نفسها فقط بحروبها، وإنما هي تحمي أمريكا أيضاً، فيهللون ويصفقون ويقف الجميع احتراماً لإساءة نتنياهو لكبرياء أمريكا والأمريكيين.
* *
وبعنصريته البغيضة المعتادة، وقد صفّق الجميع لها، يصف حربه في غزة وغير غزة بأنها حروب بين التحضر والوحشية، حرب ضد من يُعادي السامية، حرب بين الشر والخير، والجميع لا يكل ولا يمل من التصفيق والوقوف احتراماً لرجل قتل أربعين ألف فلسطيني وأصاب مائة ألف غيرهم، ودمر قطاع غزة بكامله تقريباً.
* *
في خطابه طالب بتحالفٍ أمني إسرائيلي أمريكي في الشرق الأوسط، وكأنه لا يكفيه مجازره وحرب الإبادة بالسلاح الأمريكي، والدعم السياسي من واشنطن، متباهياً بأن عدد من قام بقتلهم وأصابهم هو الأقل في حروب المدن، وتُقابل هذه الأكاذيب من أعضاء الكونجرس بالقبول والترحيب والوقوف احتراماً وتقديراً والتصفيق الحار.
* *
يقول ذلك بلا حياء ولا خجل، ويصدقوه بأن حربه في غزة هي حرب أمريكا، وأعداء إسرائيل هم أعداء أمريكا، ونصر تل أبيب هو نصر لواشنطن، وأن المظاهرات المنددة بدعوته لإلقاء خطابه في الكونجرس، حيث يطوق المتظاهرون محيط مبنى الكونجرس ممولة من أعداء إسرائيل وأعداء أمريكا، وقد اختار المتظاهرون أن يقفوا مع الشر ويجب أن يشعروا بالعار، متجاهلاً أن بين المتظاهرين أعداداً من اليهود والأمريكيين.
* *
حضور نتنياهو المدان من قبل المحكمة الدولية، والذي تحاصره تهم الفساد في إسرائيل أيضاً، ظهر وكأنه شخصية بريئة ومثالية وودودة بحسب تفاعل الحضور، ولم لا؟ وهو يقول إن القدس عاصمة إسرائيل الأبدية التي لن تُقسّم، وأن غزة أمنياً لإسرائيل، ومدنياً للفلسطينيين ممن يتعاطفون مع إسرائيل، وأن فلسطين أرض يهودية منذ أربعة آلاف سنة.
* *
أما إدانته من محكمة الجنايات الدولية فهو هراء وتلفيق كما يدعي، وأن الهدف منها تقييد يد إسرائيل في حربها مع الفلسطينيين، مُثنياً على الموقف الأمريكي المندد بقرار المحكمة الدولية، مضيفاً بأنه لا ينبغي إدانة جنود إسرائيل، بل يجب اعتبارهم أبطالاً في حربهم في قطاع غزة، وأن خياره الوحيد لإيقاف إبادته للفلسطينيين أن تستسلم حماس وتلقي السلاح وتعيد الرهائن.
* *
وفي هذه الأجواء الاحتفالية غير المسبوقة، يعلن رئيس وزراء إسرائيل بأن أمريكا لا يمكن لها أن تستغني عن حليفتها إسرائيل، لأن الدولتين في مفترق طريق تاريخي، وفي صراع بين الحضارة والتّوحش، وكي ينتصر التحضر يجب أن تكون واشنطن وتل أبيب معاً.
* *
خطاب مليء بالأكاذيب، وموقف معيب ومخجل من الكونجرس، وسيظل هذا اليوم نقطة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ما لم يظهر المنصفون من الأمريكيين لتصحيح ما كان يجب أن يقال في هذا المعترك من الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، خاصة وأن تسعين عضواً من أعضاء الكونجرس قاطعوا الاستماع إلى رجل مدان دولياً ومحلياً.