عبد الله سليمان الطليان
نظراً لأهمية الموضوع أعود من جديد لكي أقتطف جزءاً آخر من (كتاب نهاية النسيان والتنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي) لمؤلفته الامريكية (كيت ايكورن) أستاذ مساعد ورئيسة قسم الثقافة والإعلام بالكلية الجديدة بنيويورك.. هذا الجزء يتحدث عن (الطفولة).
تقول: إن الأزمة التي نواجهها بخصوص استمرار صور الطفولة كانت تمثل أقل درجة من المخاوف عندما بدأت التقنيات الرقمية في إعادة تشكيل حياتنا اليومية في أوائل التسعينيات، وكان علماء الإعلام، وعلماء الاجتماع، والباحثون التربويون، والمهولون من جميع الأطياف السياسية أكثر ميلاً إلى التحسر على فقدان الطفولة أكثر من القلق بشأن احتمالية وجود الطفولة الدائمة في العام 1994، عندما كان الجمهور العام قد بدأ من فوره في فهم واستيعاب مفردات جديدة تماما تضمنت مفاهيم مثل «الإنترنت»، و(الفضاء السيبراني) cyberspace و(شبكة الإنترنت العالمية World Wide Web)، كنت قد بدأت دراساتي العليا في مجال التربية. وكان الباحثون التربويون في ذلك الوقت مهووسين بقياس تأثير الإنترنت في الشباب ومراقبته ومناقشته، وعلى نحو أوسع، تأثير الإنترنت في مستقبل التعليم. وإن مشرفتي التي ركز عملها السابق أساسا على تاريخ محو الأمية، شجعتني على التخلص من كتبي، وعلى تعلم البرمجة أو عملية التشفير، والبدء في البحث عن ألعاب الفيديو التعليمية وتطويرها من أجل قاعة درس رقمية في المستقبل.
كان تفاؤلها غير عادي، كان عدد قليل من التربويين والباحثين في علوم التربية يستكشفون بجدية الفوائد المحتملة للإنترنت، وغيرها من التقنيات الرقمية الناشئة، ولكن تميزت هذه الفترة بذعر أخلاقي واسع النطاق بشأن تقنيات الوسائط الجديدة. ونتيجة لذلك. سعى كثير من الأبحاث السابقة بشأن الشباب والإنترنت إما إلى دعم المخاوف وإما إلى دحضها بشأن ما كان على وشك الانجلاء عبر الإنترنت.
كانت بعض المخاوف المبكرة بشأن تأثير الإنترنت في الأطفال والمراهقين مشروعة، ذلك لأن شبكة الإنترنت جعلت من المواد الإباحية، بما في ذلك المواد الإباحية العنيفة، في متناولهم على نحو أكبر، ومكنت المتحرشين بالأطفال من الوصول بسهولة أكبر إليهم. من أجل هذا ترى وكالات إنفاذ القانون والمشرعين يواصلون تصديهم لهذه المشاكل الخطيرة، وعلى رغم ذلك، فإن عديدا من المخاوف التي كانت في السابق بشأن الإنترنت كانت متجذرة فقط في الخوف ذاته، وقد انتشرت من خلال الافتراضات القديمة بشأن الشباب وقدرتهم على اتخاذ قرارات عقلانية.
ويخشى عديد من البالغين أنه إذا ترك الأطفال من دون رقيب يتصفحون الإنترنت بمفردهم فسيفقدون براءتهم سريعا من دون رجعة، وقد حركت هذه المخاوف بسبب التقارير التي أعدت بشأن ما يزعم أنه كامن على الإنترنت، في وقت كان فيه عديد من البالغين قد شرعوا من فورهم في الإقدام على مغامرة عبر الإنترنت.
كانت شبكة الإنترنت تصور على نحو شائع في وسائل الإعلام الشعبية باعتبارها مكانا يمكن لأي شخص التجول فيه بسهولة داخل مجال متعدد المستخدمين مشحون جنسيا (MUD)، والتسكع مع قراصنة الحاسوب، وتعلم حيل تجارتهم الإجرامية. أو صقل مهاراتهم كإرهابي أو صانع قنابل. في واقع الأمر، كان يتطلب فعل أي من هذه الأشياء - عادة - أكثر من دخول واحد إلى شبكة الإنترنت. لكن لم يسهم ذلك إلا بالنزر اليسير في الحد من تشكيل تصورات سلبية عن الإنترنت باعتبارها مكانا مظلما وخطيرا تنتظر فيه التهديدات على اختلاف أنواعها، عند بوابة الترحيب. بينما كانت وسائل الإعلام مهووسة بكيفية حماية الأطفال من المواد الإباحية المنتشرة على شبكة الإنترنت، ومن المنحرفين والقراصنة والمعتدين، كان الباحثون في العلوم التطبيقية والاجتماعية منشغلين بإنتاج رزم من الدراسات القائمة على الأدلة بشأن الارتباط المفترض بين استخدام الإنترنت ومختلف الاضطرابات البدنية والاجتماعية.
وقد حذر بعض الباحثين من أن قضاء كثير من الوقت على شبكة الإنترنت من شأنه أن يؤدي إلى مستويات أعلى من السمنة، وحالات الإجهاد المتكرر، والتهاب الأوتار، وإصابات الظهر لدى الشباب. كما حذر آخرون من أن الإنترنت تسبب مشاكل عقلية، تتراوح من العزلة الاجتماعية والاكتئاب إلى انخفاض القدرة على التمييز بين الحياة الواقعية والمواقف أو الحالات القائمة على المحاكاة.
كان الموضوع المشترك الذي قامت عليه المقالات الشعبية والأكاديمية بشأن الإنترنت في التسعينيات يدور حول فكرة أن هذه التكنولوجيا الجديدة أحدثت تحولا في القوة وفي مسألة الوصول إلى المعرفة. وحذر مقال أعيد طبعه على نطاق واسع في العام 1993 بعنوان «تحذير: أطفال منهمكون في اللعب على الطريق السريع للمعلومات» من أن «ترك الأطفال أمام الحاسوب من دون رقيب، شبيه إلى حد ما بالسماح لهم بالتسكع في المركز التجاري خلال فترة ما بعد الظهيرة، ولكن عندما يذهب الآباء بأبنائهم أو بناتهم إلى مركز تسوق حقيقي، فإنهم يضعون القواعد الأساسية لذلك على نحو عام: لا تتحدث إلى الغرباء، ولا تذهب إلى متاجر مخصصة للبالغين، وإليك مبلغ المال الذي ستكون قادرا على إنفاقه، يوجد في المركز التجاري الإلكتروني قلة قليلة من الآباء الذين يضعون القواعد أو من لديهم - أصلا - فكرة عن كيفية وضعها. إذا كان الآباء مهتمين وجاهلين بأمور الأشياء في الوقت نفسه، فإن الأمر له علاقة إلى حد كبير بحقيقة أنه مع مرور العقد، ارتفع عدد الشباب ليتجاوز عدد البالغين في عديد من المناطق التي كانت لا تزال توصف في ذلك الوقت بالفضاء السيبراني. لقد أصبحت الأسئلة الأبوية العملية صعبة على نحو متزايد للإجابة، بل إن طرح الأسئلة التالية في بعض الحالات، أصبح أمرا صعبا من أساسه من يملك سلطة فرض حظر تجوال في عالم الإنترنت هذا؟ وأين كانت حدود هذا الفضاء الجديد سريع الاتساع ؟ وما أنواع العلاقات التي أقامها الأطفال هناك؟ وهل كان الشباب الذين التقوا عبر الإنترنت مجرد زملاء بالمراسلة، تبادلوا الرسائل على المباشر، أم أنهم كانوا أصدقاء حقيقيين؟ ، ليس ثمة شيء جديد بشأن قلق الآباء بشأن مكان وجود أطفالهم وطبيعة الأشياء التي يقومون بها، غير أن هذه المخاوف تفاقمت بسبب التحديات المفاهيمية الجديدة. كان يتعين على الآباء آنذاك اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن رفاهية أطفالهم في عالم فهمه قليل منهم أو جربوه -أصلا- على نحو مباشر.
ضمن هذا السياق، من السهل فهم سبب التذرع ببراءة الأطفال المعرضة للخطر باعتباره أساسا منطقيا لزيادة تنظيم شبكة الإنترنت ومراقبتها؛ ففي الولايات المتحدة، حظي قانون آداب الاتصالات Communications Decency Act، الذي وقعه الرئيس كلينتون في العام 1996، بدعم كبير: غذته مخاوف واسعة النطاق من فكرة أنه من دون زيادة تنظيم الاتصالات، فسيكون محكوما على أطفال البلد بالانحراف والتمكين الرقمي المنحرف.
إن القانون الذي نجح الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية American Civil Liberties Union في الطعن به في وقت لاحق في المحكمة العليا باعتباره انتهاكا للتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة، أجاز للحكومة الأمريكية تشجيع تطوير التقنيات التي تزيد من سيطرة المستخدم إلى أقصى حد على المعلومات التي يتلقاها الأفراد والعائلات. والمدارس، الذين يستخدمون الإنترنت وخدمات حاسوب تفاعلية أخرى» و»إزالة عوامل مثبطة أمام تطوير واستخدام تقنيات حظر المعلومات وتصفيتها التي تمكن الآباء من تقييد وصول أطفالهم إلى المواد غير المرغوب فيها أو غير الملائمة عبر الإنترنت.. وإن أولئك الذين صاغوا القانون كما يبدو، قدروا أن تصور الأطفال للواقع يتأثر دائما بتفاعلاتهم مع تقنيات الوسائط وهو تقدير يستند إلى دراسات سابقة التفاعلات الشباب مع الأفلام والتلفزيون)، من أجل ذلك، كانت مرشحات (فلترة) المعلومات ضرورية.