د. منال سخري
البيئة هي ذلك البيت الذي تأسست أعمدته بجودة ونقاء الطبيعة العذراء بتفاصيلها وتنوعها البيولوجي الفريد والذي اهتزت أركانه في ظل الممارسات الإنسانية غير المستدامة لوحداته (الدول)، طمعا منها في مزيد من العطاء على حساب قدراته وتوازنه الذي جُبل عليه، يرجع المعجم العربي اشتقاق مصطلح البيئة إلى الجذر بوأ وهو يؤخذ منه الفعل الماضي أباء وباء والاسم البيئة، هذه الأخيرة تشير أيضا إلى المحيط؛ لذا يقال الإنسان ابن بيئته، وهنا إشارة للبيئة الاجتماعية.
البيئة موروثنا:
البيئة ليست ذلك الامتداد للمساحات الخضراء، الصحراء أو التلال والأنهار والهواء العليل الذي نستنشقه فحسب، بل هي موروثنا الثقافي الذي يسرده التاريخ لأمم وشعوب ارتبط وجودها بالأرض، وهي موردنا الاقتصادي الذي تقوم عليه كل القطاعات والتي يبقى ما تقدمه من خدمات مرهون بصيانة استدامة مقدراتها لتلبي حاجياتنا الأساسية.
باختصار، إنها سكن ومأوى ومصدر داء ودواء الإنسانية، هي مستقبلنا ومصدر بقائنا الاجتماعي وجودة ورفاهية حياتنا هي بيتنا وموروثنا المشترك الذي يقطنه حوالي سبعة ملايين إنسان وترتبط به قضية استمرارية البشرية من على هذا الكوكب.
البيئة أمننا الإنساني:
إن المتأمل في تاريخ الحضارة الإنسانية وكيف أبدعت في سبل البقاء بتأمين أمنها الغذائي وأمنها المائي من خلال صيانة وضمان استدامة مقدراتها من خلال نظم إدارة متكاملة لها كنظم المياه والانتاج الزراعي، كما هو الشأن في الحضارة الفرعونية وحضارة بلاد الرافدين وغيرهما، وكما كانت البيئة مصدرا للسلام واستقرار الشعوب فإنها كانت محلا للحروب والنزاعات من أجل غريزة البقاء؛ نظرا لإدراك الحضارات المتعاقبة لأهمية تأمين أمنها الإنساني (الغذائي، المائي، السياسي)، وضمان استمراريتها ولا يزال هذا الدافع إلى يومنا هذا لكن طرق تحقيقه تطورت.
مع التطور التكنولوجي الذي عرفته الإنسانية تزايدت تهديدات بيتنا المشترك ذلك أن المشكلات البيئية لا تعترف بالحدود الجغرافية للدول فدعت الحاجة لضرورة تكاتف الجهود لمواجهتها وهو ما ترجمته العديد من الاتفاقيات والمؤتمرات، من هذه التحديات التي أعتقد أنها تترابط كسبب ونتيجة أضحت ترهن مصيرنا أذكر منها: تحدي التلوث بأنواعه المختلفة (الهوائي، الأرضي، المائي، الإلكتروني، الضوضائي)، وهو نتيجة لممارسات غير مستدامة بإدخال مكونات دخيلة على الطبيعة؛ سواء الماء أو الهواء.. أو لنأخذ مثالا عن الإدارة غير السليمة للنفايات فهي تؤدي إلى انبعاث الغازات الدفيئة وتلوث الجو ومنه فهي عامل للتغيرات المناخية ونتيجة للممارسات غير الصديقة للبيئة.
أضيف أيضا مشكل البلاستيك هو الآخر يحتاج إلى سنوات ليتحلل بحسب طبيعته والذي ترحج الاحصائيات إلى تزايد الطلب على استخدامه بأضعاف مضاعفة في السنوات القادمة بالرغم من أنه سبب في تشويه المنظر العام للمحيط وتدمير الحياة البحرية، أيضا تحدي فقدان التنوع البيولجي، إدارة المياه وزحف التصحر كلها مشكلات مترابطة مع بعضها البعض ونتيجة حتمية لاختلال التوازن الإيكولوجي لبيتنا.
اليوم نعرف جميعنا هذه المشكلات التي تتفرع عنها تحديات وقضايا أخرى، أعتقد أن ما يلزمنا للحفاظ على بيتنا لا يتوقف على إدراكنا لكل هذا ولكن إلى الرؤية والاستراتيجية ذات الكفاءة والفاعلية في التطبيق والتقويم لصيانة موروثنا وبيتنا المشترك بشكل مستدام، كما أعتقد أن على وحدات هذا البيت (الدول) أن تعمل منفردة ومجتمعة على مستواها المحلي والوطني والإقليمي والعالمي في مواجهة هذه التحديات من خلال العمل على تعزيز الممارسات المستدامة في إدارة مقدراتها ومواردها مما يصون رأسمالها الطبيعي،الاقتصادي والاجتماعي وهو ما يتحقق بتبنيها لمقاربة الحوكمة البيئية وهي العملية التي يرافقها العديد من الميكانيزمات منها التوعية لتحصيل الوعي البيئي الجمعي للمواطنين وعليه أعتقد أن صيانة بيتنا وضمان استدامته يبقى مرهونا بسياساتنا واستراتيجياتنا الوطنية والتزاماتنا الدولية.