د.عبدالله بن موسى الطاير
لا أحد يُخبرهم (الجنود الإسرائيليون) بالحقيقة المُثيرة للإحباط: «الحرب ليست وسيلة لتحقيق هدف ما. الحرب هي ـ هي الهدف. لماذا؟ لأن السيطرة على الدولة في حالة الحرب هو أسهل بكثير جدًا. خلالها، كل شيء يكون مقدسًا للغاية. ممنوع. سرّيّ. (ليس الآن). (فقط عندما تنتهي). لكنها لن تنتهي، إلى الأبد. الحرب هي حياتنا. لا وجود لنا بدونها. بعون الله ـ إلى الأبد سنأكل الحِراب، إلى الأبد سُنطعِم الحِراب، وإلى الأبد سنبيع الحِراب، لكل راغب». هكذا كتب ب. ميخائيل في النسخة العربية من صحيفة هآرتس الإسرائيلية. مضيفا: «منذ يومها الأول، تخوض الدولة (إسرائيل) حربًا واحدة طويلة. لماذا؟ لأن هذا ما نحبّه نحن. لأنك إن أخذتَ مِنّا الحرب، فسوف نتفكك إلى عناصرنا المُكوِّنة، على الفور».
إسرائيل لا تحارب في غزة لهزيمة حماس، فهي تعرف كيف تهزمها، وهي متمرسة في اغتيال قيادات المقاومة وتصفيتهم واحدا تلو الآخر في أي مكان كانوا، وفي دول صديقة أو عدوة، مطبعة أو غير مطبعة. إنها تخوض حربا عبثية أحد أهدافها المباشرة تدمير المكان والإنسان، وإرغام الفلسطينيين على التفكير الجدي في الرحيل، مع أنها تعرف مخاطر رحيل الفلسطينيين، وحرمان إسرائيل من جاذبية الحرب التي تبقيها دولة متماسكة.
إن التفسير المنطقي المباشر هو أن إسرائيل لن تتوب عن الحرب بمجرد استقرار الأوضاع لها في رام الله وغزة، ذلك أنها مطالبة من أجل البقاء أن تدشن حربا بل حروبا توسعية عبثية للمحافظة على مكوناتها المتنافرة في حالة خوف وتكاتف إجباري.
من الممكن أن تخوض دولة الحرب لتحقيق أهداف أخرى غير مباشرة، بما في ذلك تعزيز التماسك الداخلي. تاريخيًا، شهدنا حالات لجأت فيها الحكومات إلى الصراع الخارجي كوسيلة لصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية أو لتوحيد السكان خلف قضية مشتركة، ومع ذلك، فإن هذا النهج محفوف بالمخاطر وينطوي على عواقب أخلاقية وسياسية خطيرة، وعادة لا يصمد لفترة طويلة، وإنما بمجرد تحقيق أهدافه قصيرة المدى، تتوقف الحرب، غير أن الحالة الإسرائيلية مستعصية؛ فهي منذ ثمانين عاما في حالة حرب، وتجتر مقولاتها البالية من أنها محاطة بالأعداء العرب. وساستها يعرفون جيدا أنه منذ كامب ديفيد عام 1978 لم يعد هناك مجال للحرب بين العرب وإسرائيل، إضافة إلى جنوح دول المنطقة للسلم والاستقرار شريطة أن يكون للفلسطينيين نصيب في ذلك بإقامة دولتهم المستقلة.
إسرائيل بغض النظر عن الحزب الحاكم، ترغب في استدامة سلوكها المحارب من أجل صرف الانتباه عن المشاكل الداخلية، إذ في أوقات الأزمات الاقتصادية أو الاضطرابات السياسية، تحاول الحكومات تحويل تركيز الرأي العام نحو عدو خارجي لتخفيف الضغط عليها. كما أن خلق عدو مشترك لكافة الأطياف السياسية الإسرائيلية يوحد السكان ضد تهديد خارجي، ويؤدي إلى تعزيز الشعور بالهوية الوطنية والقضاء على الانقسامات الداخلية، إلى جانب إظهار القوة والتصميم، مما قد يعزز شعبيتها ويقوي شرعيتها بين الفئات المختلفة وبخاصة الوطنيون الشوفينيون أو المؤدلجون المتطرفون. وحكومة بنيامين نتنياهو لديها دوافع شخصية وعقدية أبعد من مجرد المكاسب التقليدية غير المباشرة للحرب، ذلك أن فرصة اليمين المتطرف المكون للحكومة في البقاء في السلطة هي هذه الحرب الدائرة والتي دمرت غزة وشرعت في تدمير رام الله، في حرب من أجل الحرب تخدم مقاصد شخصية، تبقي الليكود وحلفاءه في السلطة لأطول مدة ممكنة.
إنهم لا يفكرون في المختطفين، ولا في الخسائر البشرية والمادية، ولا يأبهون للأمن والاستقرار الإقليمي، لأنهم الخاسرون الوحيدون فيه كعقيدة عسكرية ودينية تحكم لتحقيق نبوءات توراتية لا يخدمها الاستقرار الإقليمي في شيء. كما أن إسرائيل غير كل دول العالم، فهي لا تأبه بتآكل سمعتها الدولية، ولا بفقدان ثقة المجتمع الدولي ومنظماته فيها، ولا تخشى من عزلها على الساحة الدولية. وفي سعيها لتوظيف الحرب كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية داخلية لا تتوقف عند الأسئلة الأخلاقية الخطيرة حول شرعية مثل هذه الأعمال وتأثيرها على المدنيين الأبرياء.
عناوين الصحف الإسرائيلية تنذر بخطر محدق بالمنطقة، وليس بالأراضي الفلسطينية المحتلة فحسب، وهناك إسرائيليون يكتبون ويحذرون، ويفهمون عقلية بعضهم البعض كما لا يفهمها أي مراقب أو محلل من خارج الدولة العبرية. إن دولتهم تخوض الحروب من أجل الحروب لأنها السبيل الوحيد لحماية الكيان، فهي تقدم رشوة لمكوناتها بإطعام الداخل لحوم الفلسطينيين والعرب عموما؛ لتبقى تلك المكونات العدوة متماسكة، بعد أن تكفلت أمريكا بحمايته من أعداء الخارج.