د. صالح بن حمد الصقري
تشهد العلاقات الدولية المعاصرة بين الشرق والغرب أو بين القوى العالمية الكبرى نفسها، صراعاً في التحكم على النفوذ أو تحديد الإطار الذي تسير فيه هذه العلاقات، وتأتي المملكة العربية السعودية من ضمن هذه القوى كقوة سياسية لها وزنها الدولي، أو كقوة اقتصادية من ضمن القوى العشرين عالمياً، أو كقوة دينية لها مكانتها في العالمين العربي والإسلامي باعتبار اشرافها على أهم المناطق عالمياً وهي الحرمين الشريفين، أو كقوة اجتماعية ناشئة تريد أن يكون لها مكاناً متميزاً بين المجتمعات الأخرى، لها خصائصها الثقافية والتاريخية والحضارية، ولهذا جاءت رؤية 2030 لتلقي الضوء على هذه الخصائص والمكونات السياسية والاقتصادية والحضارية للمملكة العربية السعودية، ولتحديد المسار الذي يقود المملكة لتكون واحدة من أهم الدول والمجتمعات التي تسهم في بناء الحضارة الإنسانية وتكون أنموذجاً لدولة (تتأثر) و(تؤثر) في محيطها الخليجي والعربي والإسلامي والدولي، كما تكون رمزاً لدولة ومجتمع يجمع بين الاصالة والمعاصرة وبين الدين والعلم، يأخذ ويعطي، منتجاً لا مقلداً، وسطاً لا متطرفاً، يقدم النموذج الإنساني العالمي الذي تفتقده الحضارة المعاصرة؛ ولهذا كله اصبح لزاماً على المملكة العربية السعودية أن تعيد توازنها في علاقاتها الدولية بين الشرق والغرب، كيف لا وهي تقع في منتصف الطريق العالمي بين الشرق والغرب، مما حتم عليها أن تكون متوازنة في العلاقات بين الطرفين، فاتجهت المملكة العربية السعودية إلى إعادة بناء علاقاتها الاستراتيجية مع الشرق وخاصة مع الصين بدون الاضرار أو المساس بعلاقاتها مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والدلالة على ذلك أنه حينما كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في الصين في مارس الماضي كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الوقت في نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، مع العلم أن اتخاذها القرار السياسي السيادي المتفرد والمبني على مصالح المملكة قد لا يكون أمراً سهلاً؛ نظراً لأن بعض القوى الكبرى تتخوف كثيراً من اتخاذ بعض الدول قراراتها السيادية الخاصة بها، ولهذا فالسير على طريق التوازن في العلاقات الدولية كمن يسير على جبل أو شعرة كل طرف يريدها أن تميل له أو يريد أن يقطعها، خاصة حينما تكون الدولة كالمملكة لها مكانتها العالمية حضارياً وسياسياً واقتصادياً.
لقد فطنت المملكة لمكانة (الصين) العالمية وخاصة الاقتصادية، حيث إن الصين تجاوزت مرحلة القول إنها القوة الاقتصادية القادمة إلى أنها أصبحت قوة اقتصادية عالمية تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، كما أنها قوة سياسية عالمية فهي من ضمن مجلس الأمن الذي يتحكم في القرارات العالمية وخاصة الأمنية والعسكرية، وأيضاً للصين تاريخ وحضارة تمتد لآلاف السنين.
وقد كان للصين مساهمة حضارية، ولها علاقات مميزة مع الحضارة العربية الإسلامية وكلتا الحضارتين تأثرتا وأثرتا في بعضهما البعض، وكان لطريق الحرير القديم دور كبير في التفاهم بين الحضارتين العربية والصينية وأثره على الصين كان بارزاً، فكما قال الرئيس الصيني في كلمته التي ألقاها في مؤتمر (القمة العالمية الخامسة لتبادل الخبرات) في بكين بتاريخ مايو 2017م، والذي تشرفت بحضوره، ممثلاً لمركز البحوث والتواصل المعرفي: إن الصين عرفت الإسلام وديانات أخرى كالبوذية عن طريق الحرير، ولهذا جاءت فكرة إعادة بناء طريق الحرير والحزام الاقتصادي، وبالطبع (المملكة) هي المحور الرئيسي في هذا الطريق سابقاً وحالياً، وأكد على ذلك الرئيس الصيني حين ذكر أن مدينة (جدة) قد تكون ملتقى بين الشرق والغرب في طريق الحرير، لهذه الأمور كلها ولأهمية المملكة سياسياً واقتصادياً وحضارياً تطلعت جمهورية الصين أن تكون لها علاقة مميزة مع المملكة العربية السعودية، والتقت مصالح الطرفين على بناء علاقات استراتيجية بينهما وكان المحور (الاقتصادي) الأبرز في هذه العلاقات، حيث تقوم المملكة بتصدير المادة الاستراتيجية العالمية (النفط) إلى الصين التي تعتبر الدولة العالمية الثانية المستوردة من المملكة بعد الولايات المتحدة.
وفي زيارة الملك سلمان للصين في مارس الماضي وقعت أكبر عقود بين البلدين شملت جميع المجالات التي يحتاجها البلدين الصديقين، ولن أكرر ما تم ذكره عن هذه الاتفاقيات وتنوعها وقيمتها المالية الضخمة للبلدين، ولكن الذي أريد أركز عليه هنا في هذا المجال هو الاتفاق بين البلدين الصديقين على أمرين استراتيجيين مهمين هما:
1 - مشاركة الصين من خلال شركاتها مثل كل دول العالم لتنفيذ متطلبات رؤية المملكة 2030م.
2 - مشاركة المملكة ومساهمتها بأن يكون لها دور مهم ومحوري في مشروع طريق الحرير والحزام الاقتصادي كما كان سابقاً.
إن هذين الأمرين المحوريين يشكلان العلاقات الاستراتيجية بين البلدين الصديقين في المستقبل، ولا شك أن التنسيق السعودي - الصيني قائم بين البلدين في تنفيذ هذا المجال، ولعل زيارة نائب الرئيس الصيني للمملكة الأخيرة وعقد مباحثات مع ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان وعقد المنتدى الاستثماري السعودي - الصيني في جدة لهو دليل واضح على الاهتمام الذي تلقاه العلاقات السعودية –الصينية، ودليل أكبر على مدى التوازن الدولي في علاقات المملكة الخارجية مع الشرق والغرب.
إن تركيز المملكة على التنسيق الاقتصادي مع الصين لهو دلالة كبرى على أهمية هذا المحور (الاقتصادي) في بناء علاقة استراتيجية بعيدة المدى من خلالها تندرج تقوية العلاقات الأخرى السياسية والثقافية والحضارية، فالنجاح في هذا المحور (الاقتصادي) السعودي - الصيني يسير على وتيرة متسارعة لأن العامل (الزمني) مهم جداً في قضايا الاقتصاد، وإن كنت أرى من وجهة نظري أنه يمكن أن نكون أكثر سرعة من جانب المملكة والصين، ولا سيما أن ظروف نجاح هذه العلاقات قائمة وبشكل واضح لعدد من الأسباب منها:
أولاً: العلاقات التاريخية والحضارية في الماضي والحاضر، فلم تشهد الدولتان أو الحضارتان العربية الإسلامية والصينية أي صراع تاريخي، ولذا لا يوجد لدى الشعبين أي خلفية تاريخية سيئة بينهما كما حدث في الحروب الصليبية سابقاً.
ثانياً: تشابه المجتمع العربي السعودي والصيني في كثير من العادات الشرفية كالأسرة والكرم وغيرها، وليس لدى الشعبين أي نظرة عنصرية أو فوقية بينهما وكلاهما قابل للآخر.
ثالثاً: وجود الأدوات التي تساعد على النجاح وخاصة العنصر البشري الذي يمكن أن يقود هذه العلاقات، ولعل من أبرزها تخرج عدد من الطلبة السعوديين من الصين ويتحدثون الصينية بطلاقة وقد بلغ عددهم في الفترة الأخيرة التي تشرفت فيها بتعييني فيها كأول ملحق ثقافي سعودي بالصين عام 2008م حوالي 1200 طالب سعودي.
وقد بدا فعلاً عدد من هؤلاء الخريجين السعوديين يقتحمون المجالات الاقتصادية وأصبح عدد منهم رجال سياسة واقتصاد وإدارة وقانون وهندسة وطب.
أما بالنسبة للجانب الصيني، فبالنسبة للعنصر البشري فوجود عدد من الطلاب من الصين يدرسون في المملكة وباللغة العربية، وكذلك سرعة انتشار أقسام اللغة العربة بالصين التي بلغ عددها حوالي 53 قسماً أكاديمياً بل وأدخلت مادة اللغة العربية كمادة اختيارية مع اللغة الإنجليزية في التعليم الثانوي الصيني، وتشرفت بافتتاح أول فصل في مدرسة ثانوية في بكين في عام 2012م.
بجانب وجود عدد كبير من الأساتذة والباحثين والخبراء المهتمين ببناء العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية، كل هذا يصب في نجاح العلاقات مستقبلاً سواء كان ذلك في الشراكة الاقتصادية، أو في عملية بناء طريق الحرير والحزام الذي سيكون للمملكة دور مهم في هذين المجالين، وسيكون هناك مقال خاص عن طريق الحرير والحزام قريباً بإذن الله.
**
- الملحق الثقافي بالصين سابقاً - أستاذ مادة الصين والشرق الأقصى بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - منسق وحدة الصين والشرق الأقصى بمركز البحوث والتواصل المعرفي