إعداد - ا. د. محمد بن يسلم شبراق/ تصوير د. محمد بن يسلم شبراق:
قبل أيام دعيت من قبل أحد الزملاء الذي كان أحد طلابي المميزين خلال عملي بجامعة الطائف، وكنا نكنيه بأبي سالم، ويعمل حالياً في مجال الطيور والتنوع الأحيائي بإحدى المحميات الملكية بشمال المملكة، كان لقاؤنا زاخراً بالذكريات الجميلة والمعلومات المفيدة عن الطيور والحياة الفطرية، وكنت أسعد دوماً بلقائه لما أرى في حديثة الشغف والحب للعلم والتعلم، وأنا حقيقة أعتبره كأحد أبنائي أتشارك معه محبة الحياة الفطرية في وطننا الغالي، وكعادتنا في كل مرة نلتقي بعيداً عن مجاملات البيوت فنجتمع في أحد المطاعم، وهذه المرة اخترنا مطعماً مشهوراً بشارع شهار- بالطائف عروس المصايف، والذي يقدم المشويات بأشكالها، وكالعادة كانت الطيور تأخذ من حديثنا النصيب الأكبر، وفي هذا اللقاء غطى اليوم العالمي للطيور المهاجرة لهذا العام 2024م معظم حواراتنا، فبدأ الحديث بسؤاله عن اليوم العالمي للطيور المهاجرة، كيف بدأ؟ وما هي قصته؟ وما هذا الاهتمام العالمي بموضوع الطيور المهاجرة؟
فالاحتفال باليوم العالمي للطيور المهاجرة يهدف لزيادة الوعي بأهمية الطيور المهاجرة ودورها في النظام البيئي، وقد بدأ أول احتفال بيوم هجرة الطيور على مستوى العالم عام 1993م بالولايات المتحدة الأمريكية، وبسبب النجاحات التي حققها هذا اليوم فقد تبنى مؤتمر الأطراف اتفاقية حماية الطيور المائية المهاجرة بين أفريقيا ويوراسيا - والتي تعرف اختصاراً باتفاقية الأيوا (AEWA)- هذه المناسبة عام 2005م، واعتمد نهاية الأسبوع الثاني من شهر مايو من كل عام للاحتفال باليوم العالمي للطيور المهاجرة، فكان أول احتفال بهذا اليوم على مستوى الثلاث قارات القديمة (آسيا أوروبا وأفريقيا) في عام 2006م. أما اختيار هذا التوقيت فيرجع لأنه يوافق وصول الطيور لمناطق تكاثرها بالمناطق الشمالية، وقد حقق ذلك نجاحات كبيرة، مما جعل الدول الأطراف باتفاقية الأنواع المهاجرة والتي تعرف بـ CMS تقرُّ وثيقة في مؤتمر الأطراف عام 2017م بمانيلا – الفلبين لزيادة هذه الأيام يوماً آخر في العام، واختير نهاية الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر من كل عام، ليكون هناك يومان بالعام يتم الاحتفال فيهما بالطيور المهاجرة، وتقوم سكرتاريتا الاتفاقيتين بالتنسيق لاختيار موضوع أو شعار لهذه المناسبة، وفي هذا العام 2024م اختير موضوع «حماية الحشرات... لحماية للطيور».
لم يترك لي أبو سالم الفرصة لألتقط لقيمات من تلك المشاوي التي وضعت أمامنا، ليسأل لماذا تم اختيرت الحشرات شعاراً لهذا العام؟، لم تكن إجابتي سريعة فقد آثرت أن ألتقط لقيمات من تلك المشاوي وما جاورها من المقبلات قبل أن أكمل حديثي وأجيبه عن سؤاله، فنظرات أبو سالم تعجلني بالإجابة على سؤاله.
أنت تعلم يا أبو سالم أن الحشرات تمثل غذاء رئيسيا للعديد من أنواع الطيور المهاجرة والمقيمة المعششة، ولكن هذا الغذاء بدأ يتناقص بشكل كبير خلال السنوات الماضية، فقد نشرت دراسة عام 2019 من قبل باحثين هما شانشيز-بايو الجزيرة ويكهوز أشارا فيها أن 40 % من أنواع الحشرات معرضة لخطر الانقراض، هنا قاطعني أبو سالم قائلاً تذكرت هذا البحث لقد أشار الباحثان فيه أن هناك ثلاث رتب من الحشرات تأثرت بشكل سلبي نتيجة مهددات عدة ومن هذه الرتب: رتبة حرشفية الأجنحة (Lepidopetra) ومنها الفرشات والعث، ورتبة غشائية الأجنحة (Hymenoptera) والتي منها النحل، ورتبة غمدية الأجنحة (Coleoptera) والتي منها الخنافس.
نظرت إلى أبو سالم وقلت له أصبت، وأزيد على ما قلت إن الأنواع المنتمية لهاتين الرتبتين الأولى والثانية يقدم أفرادها خدمات جليلة مجانية للبشرية، وذلك من خلال دورها في عمليه تلقيح الأزهار، فتساهم بذلك بزيادة المزروعات ورقعة الغابات، وهذه الخدمة البيئية المجانية يمكن أن تكلف مبالغ طائلة لإجراء عمليات التلقيح، وعليه فقد صدرت قرارات ومقررات من الاتفاقيات الدولية منها اتفاقية الأنواع المهاجرة (CMS)، واتفاقية التنوع الأحيائي (CBD) تشير إلى أهمية المحافظة على الحشرات لأهميتها ودورها بالنظام البيئي، والخدمات المجانية التي تقدمها للبشرية.
الطيور المهاجرة والحشرات
توقفنا قليلاً عن الحديث لاستكمال وجبتنا الرئيسة قبل أن تذهب حرارة المشويات وتضيع نكهتها بسبب أجواء الطائف المنخفضة في درجات حرارتها عن باقي مناطق المملكة في هذا الوقت من العام، فآثرنا إشباع بطوننا أولاً واستكمال حديثنا خلال وجبة الحلى والمكونة من الكنافة بالقشدة والتي يشتهر بها هذا المطعم، وما هي إلا دقائق حتى عاودنا الحديث عن الطيور، وهذه المرة عن علاقة الطيور المهاجرة والحشرات.
بدأت حديثي لأبي سالم قائلاً: أتعلم يا ولدي أن هناك علاقة بين الطيور المهاجرة والحشرات المهاجرة، نظر إلي بنظرات يملؤها التساؤل وكأنه يقول كيف ذلك؟. لم أترك الفرصة لأي تكهنات، استكملت حديثي قائلاً: لقد أشارت عدد من الدراسات إلى أهمية حشرة اليعسوب المهاجرة والتي تعرف باليعسوب الشراعي (Pantala flavescens) في تزويد نوع من الصقور يعرف بصقر عمورية (Amur Falcon) بالغذاء، وذلك خلال هجرتها لأفريقيا تقضي فيها الشتاء، حيث توفر هذه الحشرات الغذاء اللازم لهذه الصقور من خلال قطعها آلاف الكيلومترات فوق المحيط وعلى الجزر البعيدة التي تمر من فوقها، والعجيب يا أبا سالم أن هذه الصقور لها دور مهم أيضاً بمناطقها الشتوية فهي تقوم بمهمة عظيمة ومجانية للبشرية، وكأن هذه الحشرات هي فرقة مساندة لتوصل هذه الصقور لجنوب أفريقيا لتساهم بمهمة غاية في الأهمية للإنسان بتلك المنطقة وهو مساهمتها في القضاء على الحشرات الضارة بالمزروعات، ولعمل التوازن البيئي المطلوب، بتلك المنطقة من العالم، فهي تقوم بالتغذية على الحشرات الضارة بالمزروعات وعلى رأسها النمل الأبيض، والجراد وأنواع أخرى مضرة بالمحاصيل الزراعية، وتؤكد ذلك دراسة قام بها هينك بومان وجريج سيمس وهانالين دوبليسيس، نشرت عام 2012م في موقع البيرد لايف جنوب أفريقيا، والتي تشير إلى أن صقور عمورية تقوم بالتغذية على أكثر من 2.5 تريليون نملة بيضاء، وذلك خلال تواجدها في جنوب أفريقيا في فترة الشتاء والتي تصل من 3-4 أشهر، وأنواع أخرى من الحشرات المؤثرة على المزروعات كالجراد وغيرها، وهذه تعتبر كمية كبيرة يمكن أن تؤثر على المزروعات، وهذا بالطبع له دور اقتصادي مهم لدولة جنوب أفريقيا، فزيادة هذه الحشرات يعني تأثر المزروعات، وعدم وجود هذه الطيور سوف يجبر الجهات المعنية وأصحاب المزارع لاستخدام المبيدات الحشرية، وهذا له تكاليف مالية عالية، ناهيك عن الخسائر بالقطاع الصحي الناتج عن تأثير المبيدات الحشرية على صحة الإنسان والحيوان.
هنا قاطعني أبو سالم قائلاً: ذكرتني يا أبا فيصل بدراسة كنت قد أشرت إليها خلال إحدى محاضراتك بأن الطيور الصحراوية لا تتكاثر إلا إذا كان هنالك وفرة في الغذاء والتي تمثل الحشرات جزءاً كبير منه، كيف ذلك أستاذي؟ سعدت بمداخلة أبي سالم لألتقط لقيمات من تلك الكنافة العجيبة الطعم، وحقيقة لو لم نأكل سوى هذه الكنافة لأغنتنا، وأشبعتنا،بعد أن أخذت نصيبي من الكنافة التفت إلى أبي سالم... أين كنا! آه تذكرت سؤالك وإجابته نعم صحيح فالدراسات التي أجريت هنا بالمملكة تشير إلى أن طيور القبرات بأنواعها تتكاثر عند وجود وفرة بالغذاء، فمثلاً طائر المكاء والمعروف عند البادية بأم سالم Alaemon alaudipes تراه في موسم الربيع يتراقص لجذب الإناث لكن في فترات الجفاف فإن الذكور صحيح تتراقص والإناث تقوم ببناء الأعشاش لكن لا تضع البيض إلا بوجود غذاء وافر، فالأمطار الربيعية الجيدة تزيد من الرقعة الخضراء وهذه تزيد من وفرة الحشرات والتي تمثل الغذاء الرئيسي لهذه الطيور. وهذه النتائج توافق دراسات تمت بمناطق أخرى من العالم، وعليه يمكن القول إن وفرة الغذاء يساهم في تحفيز الطيور على التكاثر، وقلة الحشرات سوف تؤثر على معظم الطيور المهاجرة والمقيمة.
........ يتبع
** **
مستشار بالمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية - رئيس اللجنة العلمية باتفاقية الطيور المائية المهاجرة بين أوراسيا وأفريقيا، عضو اللجنة العلمية بمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا