د.حادي العنزي
لم أجد لوحة ثقافية تجمع عناصر اجتماعية مُتناقضة يصعب تحليلها، مثل هوية الثقافة الخليجية التي عكست تفاعلات متضادة؛ فهي تتكيف سريعاً مع التغيرات العالمية، لكنها تبقى متمسكة بجذورها التقليدية وتُمازج بين تراث الماضي واستشراف المستقبل.
ومن أشد المتناقضات أن تسكن المجتمعات الخليجية القصور والأبراج الشاهقة، وتملك أحدث وسائل النقل وتستخدم آخر ما وصلت إليه التقنيات الحديثة، وفي نفس الوقت تجدهم يمارسون حياة البداوة في مساكنة الصحراء الواسعة والتفاعل مع مكوناتها المختلفة!
تاريخياً؛ عاشت المجتمعات الخليجية بين نمطين مختلفين من الحياة، هما: البداوة التي تُمثل أسلوب الترحال بالصحاري الشاسعة، وحياة الحضر التي تُمثل الاستقرار والتطور العمراني. هذا التباين أو التحولات الثقافية والاجتماعية مكنت سُكان الخليج من تبني هوية قوية ومتنوعة تجلت في التفاعل بين التراث البدوي والحياة الحضرية.
ومثل هذه المعطيات تطرح سؤالاً عميقاً: هل المجتمعات الخليجية بدوية أم حضرية؟ وأي إجابة عن أحوال المجتمعات - غالباً- تتطلب البحث في الممارسات اليومية للأفراد والسمات الثقافية للمجتمع.
لقد شهدت المنطقة تحولات كبيرة منذ العصور القديمة، مروراً بفترات الاحتلال، وصولاً إلى النهضة الاقتصادية والثقافية التي أعقبت اكتشاف النفط؛ مما أوجد تحديات وفرص أمام الهوية الثقافية الخليجية في ظل تغيرات العولمة. هذا التباين أو التحولات الثقافية والاجتماعية مكنت أبناء الخليج من تبني هوية قوية ومتنوعة تجلت في التفاعل بين التراث البدوي والحياة الحضرية.
وبناءً على ذلك يُمكننا استكشاف الهوية الثقافية في دول الخليج العربي بأنها نتاج ومحصلة لتاريخٍ طويل وتفاعلٍ دائم وواسع بين التقاليد البدوية والحياة الحضرية، حيث تعود جذورها إلى حضارات قديمة قبل الميلاد، مثل: حضارات دلمون وأوال والجبيل، وكذلك مجان والفلاحين، وكان لها دورٌ كبيرٌ في تشكيل الأسس الثقافية، وخاصةً الممارسات الدينية التي كانت تحتضنها المنطقة؛ مما أسهم في تشكيل القيم والعادات، وأوجد تنوعاً ثقافياً غنياً، صنعته عوامل متعددة، مثل: التجارة والزراعة، وكذلك التأثيرات الخارجية التي تتجلى في العادات والفنون، والممارسات الاجتماعية المختلفة.
ومع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، أصبحت المنطقة جزءاً من الحضارة الإسلامية التي أعادت صياغة القيم والأخلاقيات بصفةٍ عامة عند المجتمعات السكانية آنذاك. فقد نمت التجارة والثقافة أثناء فترة الأمويين؛ مما أدى إلى تبادل الأفكار بين الثقافات المختلفة، وظهر الأثر واضحاً في بناء المساجد والأسواق. وفي عصر الدولة العباسية شهدت المنطقة تحولات ثقافية كبيرة؛ كتطورات العلوم والفنون وتعزيز استخدام اللغة العربية كلغة علمية وأدبية. كما كانت مراكز التجارة في الخليج تُعزز التفاعل الثقافي مع مناطق أخرى في ظل الانتشار الكبير وفتوحات الدولة العباسية التي امتدت شرقاً إلى بلاد فارس وأجزاء من وسط آسيا، وغرباً إلى شمال إفريقيا، بما في ذلك مصر والمغرب، وشمالاً ضمت الأناضول وأجزاء من القوقاز، وفي الجنوب: شملت شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك الحجاز واليمن.
وعلى الرغم من أن دول الخليج تأثرت أيضاً بالتقاليد العثمانية والاستعمار البريطاني، الذي أحدث تغييرات في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن ذلك أضاف بُعداً جديداً للثقافة المحلية، واستطاعت المجتمعات الخليجية أن تتكيف مع واقعها في تلك الفترة وأن تحافظ على تقاليدها العربية وهويتها الإسلامية.
لقد كانت التجارة أبرز المؤثرات على الهوية الثقافية، حيث كانت منطقة الخليج مركزاً تجارياً مهماً، وصارت بعض المدن على البحر نقاط التقاء تجاري تربط بين الشرق والغرب، وشاركتها طرق القوافل البرية وسط جزيرة العرب في إدخال وتعميق ثقافات متنوعة، بينما أسهم الاستقرار الزراعي في تشكيل مجتمعات مستقرة كما في الأحساء والقطيف؛ فظهرت وتطورت عادات وتقاليد اجتماعية حول الزراعة، مثل: الاحتفالات بالمواسم الزراعية. وعُرفت المنطقة أيضاً بصناعاتها اليدوية، مثل: صناعة السجاد والفخار، وكذلك التطريز، بالإضافة إلى الفنون الشعبية التي كانت تُمارس خلال المناسبات والأعياد.
تواجه الهوية الثقافية للخليج مجموعة من التحديات؛ بسبب التقدم المتسارع في التقنية والابتكارات، ومن أبرزها: تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة على الشباب والأطفال والانفتاح على أنماط ثقافية جديدة، واتجاه الأنظار حول القيم العالمية كالفردية والاستهلاك، وهذا يتعارض مع قيمنا المحلية؛ بل إن تأثيرات العولمة ظاهرة في انتشار الثقافة الغربية التي أحدثت تغيرات اجتماعية واضحة ساندها في ذلك التطور الاقتصادي السريع والتكنولوجيا، بالإضافة إلى الاندماج مع المغتربين والعمالة الأجنبية خاصة بعد اكتشاف النفط في أوائل القرن العشرين؛ مما أسهم في تغيير التركيبة الاجتماعية والثقافية، وأدى إلى فقدان بعض التقاليد والعادات الجميلة التي أصبحنا نتحسر عليها وننعتها بزمن الطيبين!
وفي الوقت الحالي تعيش دول الخليج مرحلة نموٍ وازدهار تتمثل في نهضةٍ شاملة، والمستهدف الأول والأهم هو الإنسان والوطن، وهي تعمل بجد على إعادة إحياء التراث الثقافي وتعزيز الهوية المحلية من خلال برامج عديدة أبرزها إنشاء المؤسسات الثقافية والاجتماعية؛ إلا أن ذلك يتطلب مواصلة تفعيل الجهود بحيث تستمر المنظمات والجهات المهتمة وخاصة وزارات الثقافة والتعليم في تبني تعزيز الهوية الخليجية من خلال تكثيف برامج التوعية والتثقيف، وإقامة الأنشطة والفعاليات، وتطوير الموارد الثقافية المشتركة، وكذلك تفعيل الشراكات المجتمعية، بالإضافة إلى نشر القيم والمبادئ التي تحافظ وتعكس هوية الخليج الوطنية.