رقية نبيل عبيد
كيف تكون التفاصيل خلابة ومملة في الوقت ذاته؟! كيف تسحرني أوصاف الجمال والنافورة والطريق الفرعي والنهر والورد وانطباع ذلك كله في صدر البطلة وتضجرني في الآن ذاته؟! لأنني كي أقفز من نقطة أحداث لأخرى، كي أقلب الصفحة إلى المشهد التالي، كي أرى نتاج صفحات طويلة من انعطافة قصصية غاية في الأهمية لابد لي أولًا من اجتياز مساحات طويلة ورحبة وواسعة جدًا من شتى ألوان الأوصاف والهمس وحفيف الأوراق وخرير الجداول! وبالتالي فهي تُغرقك عميقًا في قلب القصة وتقذفك خارج نطاقها في وقت واحد!
كنت طوال الوقت معجبة بهذه التفاصيل ومنزعجة منها في آن، أقول للكاتب نعم أعرف كم أن قلمك بديع أعرف كم يبلغ سموّ أدبك،أعرف أنك كاتب حقيقي تستطيع أن تخص صفحة كاملة في وصف أديم سماء الأصيل فيما الشعب المخضل يرتوي من ثمالة الشمس المصفرّة الأخيرة، وأعرف أنك تستطيع أن تُفرد صفحات واصفًا كل خلجة تدق في صدر البطلة وكل التفاتة من رأسها المكلل بالشعر الأسود الجميل وكل فكرة حادة تعبر ذهنها فتنفضها عنها بانزعاج، لكني أريد للأحداث أن تسير ولليوم أن ينقضي ولعجلة الشخصيات أن تُدفع بعض الشيء!
فيما بعد، سأعرف حقيقة لم استغرقَ الكاتب مائتي صفحة لوصف أحداث يوم واحد بليلته، لأن الذنب الذي وقع،الإثم الذي كان،الخطيئة العظمى التي ارتكبت ونتج عنها كل ما سيكون وكل ما سوف يأتي لابد لها من هذا الوصف الجزيل، لابد أن تعرف لم وقعتْ وكيف ارتُكبتْ وكم كان الخيال الذي أثم من ورائها خصبًا واسعًا، وهكذا سولتْ له نفسه، وهكذا انهار كل شيء!
إنه العام 1935 ، وهذه شمس إنجلترا الريفية المشرقة، الحرب خبر بعيد تتهامس به الألسن ويشغل ما وراء كواليس من حديث عامة الناس، وروبي تيرنر ابن خادمة لقوم هم الأثرى والأعرق في تاريخ هذه البلدة الإنجليزية القديمة، ولد في بيت بسيط مجاور لهم ومنذ صغره صَحِب الأولاد الذين ترعرعوا بحق داخل جدران المنزل الريفي الضخم الباذخ الثراء، جون الابن الأكبر الذي يكبره، وسيسيليا المتضاحكة الشقية الخلابة، ثم الشقيقة الصغرى بيريوني التي ولدت بعدما كبر وشبّ وعرف أنه مهما لعب معهم فسيبقى دومًا مختلفًا عنهم!
روبي كان دومًا الأذكى، والأكثر تفوقًا، والأكثر اجتهادًا، هكذا يوافق الوالد المعطاء أن ينفق بكل طيبة خاطر على تعليم هذا الولد النجيب الطموح، لكن إيميلي لم تستطع يومًا التخلص من غيرتها منه! هذا الفتى الفقير الذي يفوق أبناءها تقريبًا في كل شيء، وحينما يقرر روبي أن يدرس الطب يصر الأب على منحه كل ما يحتاج .
وفي نهار اليوم الطويل الذي أسهب الكاتب في وصفه يلتقي روبي بسيسيليا وقد عاد كل منهما من دراسته الجامعية وصارا في مقتبل العشرينات من عمرهما، تحدث بينهما مشادّة، ويعرف روبي بعدها أنه يحبها، آه كم هو يحبها، وكم كان لسنوات واقعًا في غرامها دون أن يدرك ذلك! أو يسمح لنفسه أن يعترف بهذا السر الصغير المثير! وفي ذات الليلة تصل مشاعره إلى سيسيليا، لكن هناك خيال خصب يراقبهما، بريوني التي كانت تحدق إليهما منذ صبيحة اليوم، بريوني المُغرقة في كتاباتها وأفكارها والروايات التي تدمنها، كانت تتبعهما وسيهديها خيالها الواسع ذاك على ارتكاب جرمها!
حين انتهى اليوم عادت الأحداث لتسير بوتيرتها الطبيعية، وعادت الأيام تندفع برشاقة دون توقف وانسابت الليالي بهدوء بين صفحات الرواية، وعادت الأوصاف لتحل حيزها المألوف بهدوء، وفهمتُ حينها لماذا أراد الكاتب لهذا اليوم أن يكون بهذا الطول، لماذا أراد لنا أن نشهد إشراقة شمسه حتى انطواء ليلته، لقد حاول أن يُفهمنا كم آتتْ بعمل شرير، بجرم لا يُغتفر، غير أنها ليستْ شريرة ولا هي بمجرمة!
بعدها،حينما كنت أراقب روبي يخوض معمعة الحرب ويتجاوز الأشلاء الممزقة وبقايا المقذوفات والبيوت التي أحالتها القنابل خرائبًا وهجرها سكانها أو دُفنوا من تحتها، شعرتُ فجاة أني إنما أقرأ لإرنست هيمنغواي وهو يصف حرب إسبانيا الأهلية، فيما روبرت جوردان يختبئ بين الأحراش ويفكر في الطريقة المثلى لتفجير الجسر وقطع إمدادات العدو! وصف رهيب ودقيق وموحش للغاية لأهوال الحرب وآثارها والدماء التي تسفك دون أن يعيرها أحدهم انتباهه، فالجراح والصرخات والأطفال المبتورين والظمأ الشديد،الظمأ الذي يمنعك حتى أن تزدرد ريقك، الظمأ الذي يمنعك أن تبصق التراب من فمك، كلها تصبح أمورًا عادية، مشاهد تلقاها وراء كل انعطافة وخلف كل طريق!
ومجددًا عشتُ أدق تفاصيل الحرب، وسمعت دويّ المقذوفات ينفجر في أذني وأحسستُ بطعم الدم اللزج يسيل على وجهي وينحشر في فمي وشاهدت القنابل تحيل البشر من بعدها إلى عدم إلى دخان إلى لا شيء، ثم صحبت بريوني خطوة بخطوة وهي تمرض الجنود الجرحى وتنظف جروحهم المتفسخة وتعقم يديها كل يوم مرارًا حتى تجفّ وتخشنّ وتَدميا، وصرت كل يوم أتجول بين أنين الأسرّة وأنقل عشرات الجثث التي تشابهت وجوهها واسودت ملامحها ونُسيت أسماءها، وأدرك للمرة الألف كم أن الإنسان كائن هش كم يسهل محوه وتمزيقه ثم يُنسى كأنه لم يكن! وكم من شأن بلادة التفكير أن تهديه للنجاة، فالفظائع لا تبقى فظائعًا بعد اعتيادها ويصبح الوجع والموت والصرخات والوجوه المشوهة والأطراف المبتورة واللحم الطازج المحترق كلها تصبح أمورًا يمكن تقبلها والتعايش معها بل وتجاوزها كأنها لم تكن!
بريوني التي أغرقت نفسها حد أن تقطّعت أنفاسها في دوامة من عمل مجهد متواصل بلا كلل أو شكوى، بريوني التي كانت تفضل سماع كل أصوات الموت والعذاب والأوجاع عن أن تسمع صوتها الداخلي المحطم المعذب المرهق بحمله الرهيب وسره المدفون وخطيئته الكبرى! لا تريد أن تفكر لا تريد أن تسمع لا تريد أن تتذكر!
يا له من عذاب يا لها من مشقة يا له من ثقل أن تعيش تحت وطأة هذا الذنب سنوات حياتك كلها، محفورة في ذهنك تفاصيل إثمك، منقوشة كل كلمة قيلت وكل اتهام وقع وكل شهادات الزور التي اعتُرف بها!
في النهاية حينما تنتهي الحرب، حينما تعدو السنوات، وتغلق صفحات وتفتح صفحات، تقف بريوني العجوز من وراء النافذة يهتف لها جمهورها الذي عشق مؤلفاتها فيما تفكر هي في روايتها التي انتهت أخيرًا وبعد عقود ومحاولات شتى من تأليفها، تفكر في العاشقيْن، تفكر في النهايات، تفكر في خاتمة روايتها الكاذبة، في الأمل الزائف والهدف المضلّل الذي اختارته مصيرًا لهما، فقط لأنها لم تحتمل مصيرهما الحقيقي!
الكفّارة، رواية يحق لها أن تصطف فخرًا بجوار كل الروايات العظيمة التي كُتبت على مدار الزمان، جنبًا إلى جنب مع أناس عشقوا الأدب وفنونه وحذقوا كل ألوانه، ثم هم حين قرروا الكتابة كتبوا بحق كتبوا بشغف كتبوا لتُخلد كتاباتهم ولا تمّحي قط مهما دارت بها السنوات واسّاقط من حولها الإنسي وانسلخ من جلودهم وعظامهم آخرون، باقية ما بقي للإنسان ذنوب وآثام، وعشق وأسرار، وخبيئات ليلية، وحرقة الندم، واليأس لإصلاح ما كان، ولَذة الذكريات المنسية وحماقات الطفولة، والقصص التي تُروى بين انعطافات العمر، قبل أن يغلبنا الهرم ونُطوى إلى المجهول ويأتي من بعدنا من سيكونون .
حينما نُقلت الرواية إلى الشاشة السينمائية كان من الطبيعي أن تؤدي دور سيسيليا كيرا نايتلي، النجمة الدرامية الأولى بلا منازع، بابتسامتها نصف الساخرة وشعرها البني الطويل وسكائرها بين شفتيها تنفث أفكارها وحِدّة طباعها دخانًا، الفيلم جاء أكثر من رائع وكنت وا أسفي قد شاهدته أولًا، لكن لمّا وقعتْ بين يديّ الرواية نسيت كل شيء عنه وغرقتُ تمامًا في كلمات وأوصاف إيان ماك إيوان، ياله من مبدع، يا لها من فكرة، يا له من كاتب!