جانبي فروقة
تم مؤخراً منح جائزة نوبل في الاقتصاد للأمريكي من أصل تركي دارون عجم اوغلو والأمريكيين البريطانيين سايمون جونسون وجيمس روبنسون لمساهماتهم القيمة في دراسة كيفية تشكيل المؤسسات وتأثير ذلك على رفاهية الدول، وقد علق جاكوب سفينسون رئيس لجنة جائزة الاقتصاد قائلا: إن الخبراء ساعدوا في تفسير سبب استمرار الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
يعد كتاب «لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة، الازدهار والفقر» من الكتب البارزة التي تحلل الأسباب الكامنة وراء التفاوت في مستويات الازدهار بين الدول، حيث قدم الكتاب رؤية تتجاوز النظريات التقليدية التي تعزو تطور الأمم أو فشلها إلى العوامل الجغرافية أو الثقافية ليركز بدلاً من ذلك على المؤسسات السياسية والاقتصادية.
يتبنى الكتاب الفرضية القائلة إن المؤسسات هي العامل الحاسم في تحديد مصير الدول، حيث إن الدول التي تبنت مؤسسات شاملة Inclusive Institutions والتي تتيح حقوقاً سياسية واقتصادية حققت نجاحاً وازدهاراً مستدامين، وفي المقابل فإن الدول التي سيطرت عليها مؤسسات استخراجية Extractive Institution حيث تستغل الموارد لخدمة فئة قليلة عانت من الفقر والتخلف.
ولفهم الفرق بين هذين النوعين من المؤسسات لا بد من فهم جوهر كل منها، حيث إن المؤسسات الشاملة هي التي تتيح فرصاً متساوية لجميع أفراد المجتمع، وتعزز هذه المؤسسة الابتكار والنمو الاقتصادي وتؤدي إلى توزيع عادل للثروة، أما المؤسسات الاستخراجية فهي التي تستغلها فئة قليلة حاكمة وتستغل هذه المؤسسات موارد الدولة لتحقيق مكاسب ضيقة؛ مما يؤدي إلى عدم استقرار اقتصادي وسياسي وفقر مستمر.
من الأمثلة الحية البارزة التي يسوقها الكتاب المقارنة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، حيث إنه رغم التشابه الجغرافي والثقافي بين الكوريتين فإن كوريا الشمالية التي تبنت مؤسسات استبدادية واستخراجية جعلتها من أفقر الدول وأكثرها عزلة في العالم، بينما على النقيض نجحت كوريا الجنوبية في تأسيس مؤسسات شاملة تدعم حقوق الملكية وروح الابتكار؛ مما ساعدها على التحول لدولة صناعية متقدمة تشهد نمواً اقتصادياً مستداماً.
كما يقدم الكتاب مقارنة تاريخية بين الاستعمار الإسباني والاستعمار البريطاني في الأمريكيتين، حيث إن المؤسسات التي أسسها المستعمرون الإسبان في أمريكا اللاتينية كانت في الغالب مؤسسات استخراجية باتت تمص قوت الشعوب ومواردها؛ مما أدى إلى تراجع النمو والفقر المدقع والاضطرابات السياسية، في حين أن المستعمرات البريطانية أسست مؤسسات شاملة أكثر انفتاحاً على المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية مما ساعد في بناء اقتصاد قوي وديمقراطية مستقرة.
يؤكد المؤلفان أن الثقافة قد تلعب دوراً ثانوياً في النجاح الاقتصادي ولكنها ليست العامل الحاسم، ويؤكد الكتاب على أهمية الدور الحاسم للمجتمع المدني الذي يدفع عجلة التغيير، والتحول في المؤسسات قد يكون قسرياً نتيجة ضغوطات مجتمعية متزايدة، ويذكر الكتاب أن العولمة من العوامل الخارجية التي قد يكون لها دور في تحديد مصير الدول، حيث إن العولمة قد تكون قوة إيجابية إذا تمت الاستفادة منها من خلال مؤسسات شاملة تسهل التفاعل مع الاقتصاد العالمي. وفي حال عدم تبني السياسات الإصلاحية والتحول للمؤسسات فإن العولمة قد تعمق الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة.
من الأمثلة القوية على التحول المؤسساتي الذي يؤدى إلى ازدهار اقتصادي جمهورية الصين الشعبية، فبعد الثورة الثقافية وسياسات «ماوتسي تونغ» كانت الصين تعاني من مؤسسات استخراجية شديدة المركزية؛ مما أدى إلى ركود اقتصادي وفقر واسع النطاق، ولكن بعد وفاة ماوتسي في سبعينيات القرن الماضي قامت الحكومة بسلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي فتحت مجالاً أمام المؤسسات الشاملة التي قادت إلى النمو الاقتصادي الهائل للصين، وتحولت الصين إلى قوة اقتصادية عملاقة وما يزال الباحثون يعلقون أن استدامة هذا النمو منوط باستكمال تحول المؤسسات الاستخراجية للنظام الصيني إلى مؤسسات شاملة.
وكمثال ناجح من القارة الأوربية نجد الدول الاسكندنافية مثل النرويج والسويد والدنمارك التي استفادت من المؤسسات الشاملة لبناء مجتمعات مزدهرة ومتساوية، حيث إن هذه الدول ليست غنية فقط بسبب مواردها الطبيعية مثل النفط في النرويج، بل بسبب مؤسساتها الشاملة التي تضمن توزيعاً عادلاً للثروة وتوافر فرص اقتصادية وعدالة اجتماعية لجميع أفراد المجتمع.
واليوم يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتجنب فشل الأمم إذا استُخدم بشكل حكيم واستراتيجي، من خلال تعزيز الشفافية، تحسين التعليم، التنبؤ بالأزمات، إدارة الموارد، وتشجيع الابتكار، يمكن للحكومات بناء دول قوية ومستدامة تعتمد على مؤسسات شاملة تخدم الجميع.
المفتاح هو استخدام الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتحسين كفاءة العمليات، ولكن أيضًا لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز المشاركة العامة في بناء مستقبل مشترك.
** **
- كاتب أمريكي