رقية نبيل عبيد
إنه من المسلّم به أن الصعاب التي تواجهنا، والعراقيل الموضوعة في طرقنا، والمشكلات التي نكافح علّنا نتجاوزها، كلها من شأنها أن تصبح محفزات كي نكون أقوى، أفضل، أكثر نضجًا، كلها من شأنها أن تجعلنا للناس أقرب، ألطف وأقدر تفهمًا، كلها من شأنها أن تغذي حياتنا القادمة، أما عن الآن، أما عن وقت تواجد هذه الصعوبات أما عن مرارتها ولوعتها وجراحها، فهؤلاء قد يرافقوننا أبدا!
«أرجوكم لا تسخروا مني» ما هي إلا مذكرات طفلة، دونتْها المرأة الناضجة منها التي أصبحتها فيما بعد، هذه المذكرات أصابتني بالذعر! متى أصبح الحال هكذا؟! متى وصل تدني الأخلاقيات حتى هذا المستوى؟! متى صار الأمر معقدًا على هذه الشاكلة؟! المثير للرعب حقًا أن الإساءة التي تعرضت لها الكاتبة لم تحتو الصغار الذين ماثلوها سنًا فحسب بل تجاوزتها إلى عالم الكبار، التجاهل واللامبالاة وغض الطرف،كانت جرمًا أشد اعتداءً من الجرم الأصلي.
المشكلة في مدارس الثانوية الأمريكية كما أراها أن الأخلاقيات لم تكن يومًا جزءًا من المنهج الدراسي الأمريكي! لا أحد يعيرها اهتمامًا ولا قيمة لها بجوار معادلات الرياضيات والكيمياء وقواعد اللغة الإنكليزية وشكسبير وتشارلز ديكنز! لا أحد يعلمهم اللطف والتسامح والرقة والتجاوز لا أحد يخوّفهم من مغبة إيذاء الآخرين والسخرية منهم وغيبتهم كلما اختفوا لدقائق معدودة من أمامهم!
في المجمل كل أخلاقيات الإسلام التي تُغرس فينا منذ نعومة أظفارنا ومنذ ننطق أولى كلماتنا ومنذ نخطو أول عتبة دراسية في مدارسنا، أما الأسوأ والأقذر، الجرم الذي لا يغتفر قط، الخطأ المسموح به تمامًا، والذي لابد أن تكون له عاقبته إن عاجلًا أم آجلًا، وهو غرس فكرة المواعدة في أذهانٍ شبابية صغيرة بل وتكاد تكون طفولية ما استوعبتْ العالم بعد، وما عرفت له طريقًا أو مُدخلا، صغيرات في الثانية عشرة من أعمارهم ولا يشغل تفكيرهم خلا الشباب والقبلات! قذارة ما بعدها قذارة وانحطاط لم يحدث على امتداد مئات السنوات الأخيرة!
هناك شيء خاطئ في طريقة تفكير عوام الناس هناك، حلقة مفقودة، رابط جوهري ثمين محلول، حس المنطق السليم والفطرة البريئة ضائعة تمامًا لديهم!
كل شيء بسيط يحدث لابد أن يقولب ويُغير ويوضع داخل أسماء كبيرة ومصطلحات غامضة ومكاتب راقية باردة تعج بالأطباء النفسيين والمحللين بالغي الخطورة الذين يحيلون مشكلة بسيطة كالتنمر إلى مجموعة عجائبية من الأمراض والتشخيصات النفسية التي تتطلب حبوبًا لا نهاية لها لعلاجها! وبدلًا من الطبطبة واللطف والتفهم وردع الخطاة يتحول المضطهد إلى مريض حقيقي يظن الشمس تشرق من المغرب، يظن نفسه وحيدًا تفترسه الأوهام،يظن العالم مجنونًا أو أنه عاقل وهو الاستثناء المجنون منه!
جودي بلانكو اليوم ناشرة شهيرة، كتبت ثلاثة كتب نالت جميعها استحسان جمهور عريض من القراء، وكان ثالثها هو مذكراتها «أرجوكم لا تسخروا مني»، صرخة أطلقتها طفلة صغيرة وما وجدت لها من مجيب، لا منقذ، لا بطل، لاشيء سوى أبوين متحابين وأسرة سعيدة وخالات رقيقات هي العناصر الوحيدة التي أنقذتها من الضياع للأبد، في مذكراتها تكتب جودي أنها محظوظة بوجودهم، فمن تعرض لما اختبرته وما وجد وإياه أسرة سقط سقوطًا مدويًا، والعديد منهم إما في السجن أو تحت القبور!
المخيف كان بالنسبة لي هم الأطباء النفسيون الذين أصرّ والديها على اصطحابها إليهم، وحينما تجد جودي نفسها تقتعد كرسي المرضى، تقول كلمتها الشهيرة «المصحات النفسية ملأى بضحايا المرضى لا المرضى أنفسهم»! تفكر، لمَ تتواجد هي هنا في هذا المشفى البارد أمام هذا الطبيب الضخم المتفحص الذي يتهمها صراحة بالمغالاة والحساسية الزائدة ويصف لها حبوبًا زرقاء وكأنها الحل السحري للتنمر الذي تواجهه، فيما يتواجد معذّبوها بالخارج تحت شمس الصيف المنعشة وبين أصدقائهم وأهليهم ضاحكين!
أما ما كان يجول تفكيري طوال الوقت هو لماذا لم يكن هناك رادع من أي نوع لما يحدث لها؟ فقد كانت الاعتداءات تحدث في وضح النهار، على مرأى من الجميع، والوحل الذي يلطخ ملابسها والكتب الممزقة وآثار الكدمات كانت تبدو جلية للكل، كيف استطاعوا تجاهلها؟! وفي النهاية عادت أصابع الاتهام إليها هي، ووُصمت بكلمات مثل «عدم القدرة على التكيف الاجتماعي»، جملة الكبار التي ترجمها الصغار ببساطة إلى «منبوذة» .
جودي بلانكو كانت جميلة، نحيلة ولأبوين متحابين ثريين، يبدو كل شيء متكاملًا، لكنها لرفضها خوض مشاكسات خبيثة صغيرة أو لمحبتها لذوي الحالات الخاصة، أو لإغراقها في عالم الشِّعر ودنيا الكلمات التي تعشقها عُدّتْ مختلفة، والويل كل الويل إن كنت مختلفًا في مدارس النظام الأمريكي على ما يبدو!
لا أقول إن التنمر مشكلة لا نواجهها نحن في دولنا العربية الإسلامية، ولكن لأخلاقيات الإسلام التي تُغرس فينا منذ الصغر بحق دور في اختلاف جوهري يميزنا عنهم، والمضايقات كما آمل لا تصل قط إلى هذا الحد الفظيع من الامتهان النفسي والإيذاء الجسدي الذي شاهدته في مذكرات جودي بلانكو.
في النهاية تخلص جودي إلى القول بأن المتنمرين لا يذكرون إساءاتهم، ولا يشعرون بالأسى والدمار وكمّ العذاب الذي يخلفونه من ورائهم في نفوس ضحاياهم، وكل الأذى الذي تسببوا به لا يعُد فيما بعد سوى جزء من عملية النضج، وكما كانوا يقولون لها «الأولاد هم الأولاد وهذي التصرفات ستختفي مع الوقت»، في حين الحقيقة أن الأمر صار بحق مخيفًا، كارثة محققة لا يمكن تجاهلها، وهؤلاء «الصغار» ليسوا في الحقيقة أبدًا كذلك وهم مسؤولون بدرجة كبيرة على تصرفاتهم وتتوجب محاسبتهم، لابد من إعادة النظر والتقييم لكل تلك الفوضى! اعتقدتُ دومًا أن ما يحدث في الأفلام والمسلسلات الغربية التي تتحدث عن التنمر إنما هي مبالغات سخيفة لأجل أغراض الدراما، لكن لا! مذكرات جودي بلانكو جهرتْ لي أن الوضع أسوأ من أي صورة تُعرض أو عُرضت قط!