أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
من المؤكد أن لفيفاً من مناهج الغرب وفلاسفتها وعلمائها وعلى وجه الخصوص الأوروبيون منهم قد اطلعوا على المخطوطات وترجمات المؤلفات ذات العلاقة بالموروث العربي الفلسفي والمنهجي والعلمي الذي عم البلدان التي سادها الإسلام في الفترة الممتدة من القرن الثامن حتى الثالث عشر للميلاد. وأزعم أن علماء الغرب قد اطلعوا خلال الفترة الآنفة الذكر وما بعدها أيضا على ترجمة معاني القرآن الكريم الذي أثرت آياته الكونية والعلمية تحديدا في مسارات الفكر الأوروبي المعرفي المنهجي وبلورت أسس ابستمولوجياته العلمية التي سادت آنذاك. فلا غرابة إذا من ملاحظة مقاربات قد تصل إلى حد التوافق أو التطابق بين الإشارات العلمية القرآنية والمنجز العلمي الذي ينسب لنيوتن وإنشتاين وجامو وهبل وبلانك وهوكنج علي سبيل المثال لا الحصر وبخاصة في المجالات المتعلقة تحديدا بنشأة الكون عن فتق بعد رتق وانحنائه وجاذبيته وتمدده واتساعه ونسبية ظواهره فضائيا وطيه في آخر الأزمان وما يتبع ذلك الطى من إرهاصات اضمحلاله وفنائه في نهاية المطاف. ومن الجدير بالذكر، تعد كتابات ابن حيان وابن قرة والبتاني والرازي والخوارزمي وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد وابن البيطار والخازن والطوسي وابن النفيس والقزويني وابن الشاطر على سبيل المثال لا الحصر من أكثر الأطر المرجعية تأثيرا أيضا في المسار العلمي والمنهجي لعلماء أوروبا كبيكون وديكارت وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل. ولا شك أن دلائل تأثير الموروث العلمي العربي على الفكر الغربي ليست بخافية على أحد، بل وفيرة ودامغة، فقد أشاد بريفولت مثلا في كتابه الموسوم «صنع الإنسانية» بمفكري وعلماء المسلمين الذين أثرت إسهاماتهم في الفكر الأوروبي، مؤكدا بريفولت في كتابه أن روجر بيكون ومن بعده فرنسيس بيكون قد أخذا منطلقات منهجهما عن أبي حامد الغزالي، كما فعل ديكارت الشيء نفسه عندما ألف كتابيه «مقال في المنهج» و«مبادئ الفلسفة». ولا شك عندي أن منهجية روجر بيكون التي تتضمن استقراء المشاهدات وتبويبها والتدرج والترتيب والحذف والاستبعاد لدليل جلي على مدى عمق محاكاة هذه المنهجية لحديات ابن الهيثم في «المناظر» ومنها تحديدا حديات انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج وحسم مواد الشبهات على التوالي. فبعد عشرات الأعوام من بزوغ شمس منهجية الحسن ابن الهيثم، وحد روجر بيكون في نص من نصوص كتابه المنشور عام 1620 للميلاالموسوم «الأروجانون الجديد» بين الملاحظة والتجربة رغم إخفاقه في زعمي الائتلاف في ذلك النص بين الاستقراء والاستدلال كحقل منهجي موحد. ويؤكد يحيى أبوالخير في المقال الذي حبره في جريدة الجزيرة يوم الخامس من سبتمبر 2024م بعنوان «المنظومة المعرفية لمنهجية الحسن بن الهيثم الائتلافية»، مدى عمق المقاربة بين بيكون والحسن بن الهيثم في القضايا المنهجية التي تتعلق تحديدا بالملاحظة والتجربة وبقوائم البيانات التي أجملها عبدالرحمن بدوي في كتابه المعنون «منهج البحث العلمي» المنشور عام 1963م في ثلاث قوائم متتالية هي: قوائم الحضور والغياب والمقارنة. وزيادة على ما حبرته في صحيفة الجزيرة المشار إليها أعلاه أود في مقالي هذا التأكيد أدناه على ما لم أحبره في تلك الصحيفة وهو أن بيكون جمع المشاهدات وبوبها عبر تلك القوائم محاكيا ابن الهيثم في استقرائه السردي للمشاهدات وفي تمييزه لخواص الجزئيات والترقي في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب. وبناء على ما ذكره موسى جلال في كتابه الموسوم «منهج البحث العلمي عند العرب» المنشور عام 1982م، فقد وضع بيكون الشواهد في جداول لتساعده في تطبيق طريقة الحذف والاستبعاد للصور الباطلة أي التي لا تأثير لها في الواقعة وإبقاء الصور المسببة والفاعلة، محاكيا بيكون هنا في اعتقادي مرة أخرى منهجية ابن الهيثم وخاصة في القضايا المتعلقة بضبط القياس ومسائل التعميم التفسيري المتمثلة في طرق الحذف أو الاستبعاد لما لا يتفق مع الحالات والمشاهدات. وقد أشار بيكون في هذا الصدد أن الانتقال من الأخص إلى الأعم في الاستنتاج لا بد أن يخضع كل جديد مستنتج في هذا الانتقال للتجربة لتأييده أو رفضه (انظر موسى 1982م أعلاه). ويعد هذا الأمر في اعتقادي محاكاة بيكونية صارخة للقواعد التجريبية التي وضعها الحسن ابن الهيثم في مجالي التحفظ من الغلط في النتائج وحسم مواد الشبهات. وإضافة إلى ما سبق، فإنني أعتقد أن التساؤل المنطقي الذي أثاره جلال موسي عام 1982م في كتابه المذكور آنفا للكشف عن مدى صلة طريقتي السبر والتقسيم عند ابن الهيثم بطريقة الحذف عند بيكون وطريقة البواقي عند ميل يعد في رأيي مشروع عمل مستقبلي يسوغ رفع الستر عن الدور الذي لعبته منهجية ابن الهيثم وغيرها في أعمال مناهجه الغرب وعلمائهم الذين من المحتمل أن استنسخ بعضهم هذين المفهومين اللذين وظفهما ابن الهيثم تحديدا قبل بيكون وميل في حذف ما ليصلح للتعليل والإبقاء على ما يصلح.