نجلاء العتيبي
عند الصفحة (36) في كتاب: «سيرة شعرية» للدكتور غازي القصيبي رحمه الله، وقفتُ. يقول غازي: «لقد كنتُ منذ سنِّ التاسعة وحتى اليوم قارئًا مدمنًا، إن جاز التعبير، ولا أعتقد أن أسبوعًا واحدًا قد مرَّ بي منذ أن أجدتُ القراءة ولم أنتهِ فيه من قراءة كتابينِ أو ثلاثة، إنني لا أذكر هذا الإدمان على سبيل المباهاة، ولكن كحقيقةٍ لا بد لي فيها..».
نعم، قراءة الكتب هي النافذة الواسعة التي يُطِلُّ منها الإنسان على عوالمَ متعددةٍ لا حصر لها، إنها التجربة التي تُتيح للعقل أن ينطلق من سجن ذاته، ويختبر حياة بعيدة عن واقعه المألوف؛ لينطلق إلى فضاءات جديدة من الفهم والمعرفة، فالكتب تمدُّ القارئ بوسيلة استثنائية؛ للغوص في أعماق فكر الآخرين، والتعلُم من أفكارهم وتجاربهم، كأنها جسورٌ تربط بين أزمنة مختلفة ووجهات نظر متباينة.
إن قارئ الكتب يكتسب بُعدًا خاصًّا في إدراكه للحياة؛ إذ تُحفِّزه الكتب على التمعُّن فيها، فيخرج من عوالمه الضيِّقة إلى عوالم متجددة مليئة بالفائدة، كلما قرأ كتابًا جديدًا يصبح أكثر فهمًا لأوجه الحياة المتنوعة.
تغرس الكتبُ في القارئ شجاعةَ الحوار، وتجعله متقبِّلًا للآخرين بتنوُّعهم، حين يغوص في النصوص المختلفة يتعلَّم كيف يقف على الحياد ليقرأ بحيادية، ويزنُ بموضوعية وإنصاف؛ لتصبح الكلمة وسيلته نحو التفاهم والرؤية الناضجة، وبهذا يتمكَّن من مواجهة التحديات التي يتعرَّض لها في مسيرته دونما خوفٍ من غموض مجهول أو تشويه حقيقته.
قراءة الكتب أيضًا تُشعل الفضول، وتجعل من القارئ مغامرًا دون أن يُغادر مكانه، فكلما تنقَّل بين صفحات كتاب انغمس في قصة أو فكرة أصبح أكثر وعيًا بعمق الحياة وحكمتها. ويُصبح هذا الفضولُ الدافعَ نحو استمرار التعلم والمعرفة المستمرة، فالكتب تُحفِّزه لاكتساب المهارات الحياتية والشخصية التي لا تُعلَّم في أي مدرسة، لكنها تأتي كثمار لحواراته المستمرة مع الأفكار التي تشحنه بمخزونٍ ثمينٍ من الحكمة والتبصر.
كذلك تنقُلُ الكتبُ القارئَ إلى مجتمع معرفي لا حدود له، حيث تتكسَّر الحواجز بين الأزمان والثقافات، فيرى كيف تعاطى أناس مختلفون مع همومه ذاتها على مر العصور؛ ما يعينه على فهم ذاته والعالم من حوله؛ ليخرج من صومعة الأنا الضيِّقة إلى فضاءات الإنسانية الأوسع، فيصبح كل كتاب قرأه سندًا يُرافقه، يمنحه القوة التي يحتاجها ليشُقَّ طريقه نحو أهدافه بتصميم وثقة.
فالكتب تُزوِّد القارئ بمهارة التحليل والتفكير النقدي، حيث يستعرض أمامه المؤلِّفون زوايا متعددة للأمور التي غالبًا ما لا تتاح له في الحياة اليومية؛ إنها تجعله يبحر في محيط من الأفكار المتداخلة، فيصبح متمرسًا على انتقاء الأنسب منها، ويُطوِّر قدرةً على استيعاب ما بين السطور، بهذا تُعزِّز القراءة من تفكيره المستقل، وتُحرِّره من قيود التقليد الأعمى، فيصبح عقله قوة محرِّكة للتغيير والإبداع.
قراءة الكتب ليست مجرد هوايةٍ، بل هي تجربة عميقة ومتفردة تنحت شخصية القارئ بصبر وتروٍّ، تغذيه بالمعرفة، وتحفز فيه التفكير، وتجعله قادرًا على رؤية كل الأشياء بعيونٍ أوسع، ووعي أعمق؛ إنها تصوغُ كِيانه ليصبح روحًا متجددة تُقدِّر الجمال، وتواجه الحياة بأفق منير يجعله على الدوام متصالحًا مع ذاته، وواعيًا بقيمته ودوره في بناء المجتمع.
ضوء
«وإني أُخبر عن حالي: ما أشبعُ عن مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأنِّي وقعتُ على كنزٍ». ابن الجوزي