عبدالله صالح المحمود
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي يشهدها العالم، يظهر التساؤل حول جدوى الأساليب التقليدية للتعليم الجامعي، ومدى ملاءمتها لتحديات وتطلعات العصر. ومع التطور المستمر للتكنولوجيا، تُطرح على الجامعات تساؤلات جوهرية حول أفضل السبل لتحقيق التوازن بين التعليم الحضوري والتعلم الافتراضي.
يبدو أن نموذج التعليم الهجين، الذي يمزج بين الحضور الفعلي والتعليم عن بُعد بنسبة 50 % لكل منهما، قد يكون الخيار الأمثل لتمكين الجامعات من تقديم تجربة تعليمية متوازنة وفعّالة تحقق أهدافها التعليمية والاقتصادية والاجتماعية.
يمنح التعليم الهجين ميزة مرونة عالية تتناسب مع احتياجات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، دون المساس بجودة العملية التعليمية. هذا النموذج لا يقتصر على تقليل التكاليف التشغيلية للجامعات، بل يُتيح للمؤسسات التعليمية إعادة توجيه الموارد نحو مجالات حيوية كالابتكار التكنولوجي والبحث العلمي، مما يعزز من دور الجامعات كمراكز للمعرفة المتجددة والتطوير، بدلاً من الاعتماد فقط على البنية التحتية الضخمة. وبذلك، يصبح التعليم الهجين أكثر من مجرد حل تقني، بل استراتيجية فعّالة لتخفيض الأعباء المالية المتصلة بتشغيل المباني والمرافق، ما يتيح التركيز على المحتوى التعليمي وجودته.
من أهم الجوانب التي يعززها التعليم الهجين هو تمكين الجامعات من استقطاب كفاءات أكاديمية عالمية لإثراء التجربة التعليمية للطلاب السعوديين. فبدلاً من حصر التعليم على أساتذة محليين، يُتيح هذا النموذج للجامعات الاستفادة من نخبة الأساتذة الدوليين عبر محاضرات افتراضية، مما يثري المحتوى التعليمي ويمنح الطلاب فرصة التعلم من أفضل الخبرات العلمية العالمية دون الحاجة إلى السفر أو تحمل التكاليف الباهظة. وبهذا، تتحول الجامعات السعودية إلى نموذج تعليمي عالمي مفتوح على التجارب المختلفة، مما يعزز جودة المخرجات التعليمية ويزيد من جاذبيتها للطلاب وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء. وفي سياق هذا التحول، تبرز الحاجة إلى تعديل سلم رواتب أعضاء هيئة التدريس بما يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الحالية، ويدعم استدامة العمل الأكاديمي وتطويره. العديد من الأساتذة يعتمدون اليوم على رواتب ثابتة لا تعكس حجم الجهد المبذول في إعداد المحتوى الأكاديمي أو البحث العلمي، مما يضيف ضغوطًا اقتصادية عليهم في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة. من هنا، يُقترح نظام جديد يعزز من عدالة الرواتب، عبر إعادة هيكلة السلم الوظيفي ليشمل مكافآت تحفيزية تعتمد على الأداء الأكاديمي، مع توفير بدلات خاصة لمن يساهمون في البحث العلمي أو التعاون الأكاديمي الدولي.
هذه التعديلات في سلم الرواتب والمزايا تُحقق توازناً بين متطلبات الأساتذة واحتياجات الجامعات، وتمنحهم حافزًا أكبر للالتزام بتقديم محتوى تعليمي متميز وجذاب سواء على المستوى الحضوري أو الافتراضي. كما أن التحفيز المالي على تقديم محاضرات ذات جودة عالية والمشاركة في برامج التعاون الأكاديمي العالمي، يمكن أن يزيد من كفاءة العملية التعليمية ويصب في مصلحة الطالب بشكل مباشر.
يتعدى تأثير التعليم الهجين الحدود الأكاديمية ليشمل المجتمع ككل. فعلى المستوى الاقتصادي، يُساعد هذا النظام الجامعات على تحقيق وفورات مالية من خلال تقليل التكاليف التشغيلية، مما يتيح لها استثمار الموارد في تطوير الأدوات التعليمية الرقمية وتعزيز جودة المحتوى الأكاديمي. كما يُشجع هذا النموذج على استخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، مما يجعل التعليم تجربة تفاعلية وملهمة تلبي احتياجات سوق العمل بشكل أفضل.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن التعليم الهجين يُسهم في تخفيف الازدحام المروري والضغط على البنية التحتية للمدن الكبرى، حيث يمكن للطلاب متابعة محاضراتهم من منازلهم، مما يقلل من التنقل اليومي ويتيح توفير الوقت والجهد. كذلك، يُعزز التعليم الهجين من قدرة الطلاب على إدارة أوقاتهم بمرونة، مما يسمح لهم بتحقيق توازن أفضل بين متطلبات الدراسة وحياتهم الشخصية، وهو ما ينعكس إيجابيًا على أدائهم الأكاديمي وصحتهم النفسية.
من الواضح أن التعليم الهجين يمكن أن يكون حلاً مستدامًا وفعالاً للتعليم الجامعي في السعودية، حيث يجمع بين مزايا التعليم الحضوري والتعليم الافتراضي، ويوفر فرصًا مهنية ومالية أفضل لأعضاء هيئة التدريس. ويحتاج هذا التوجه إلى رؤية استراتيجية شاملة تشمل تعديل السلم الوظيفي، واعتماد نظام يراعي احتياجات الأستاذ الجامعي ويعزز من دوره في بناء مجتمع علمي رائد. إن التحول التدريجي نحو التعليم الهجين هو خطوة ضرورية تتماشى مع احتياجات أعضاء هيئة التدريس وتطلعات الطلاب. ولا يمثل هذا التحول فقط نقلة نوعية في جودة التعليم، بل يضع الجامعات السعودية في موقع ريادي عالمي، حيث تكون جاهزة لمواكبة التطورات التقنية والاقتصادية، وتعمل على خلق بيئة تعليمية متكاملة تجمع بين الحضور والتفاعل الافتراضي.
باختصار، يُعد التعليم الهجين نموذجًا متقدماً يمكن للجامعات السعودية من خلاله تبني رؤية تعليمية مرنة ومستدامة تحقق مستويات عالية من الجودة، مما يجعلها على أتم الاستعداد لمستقبل تعليمي يواكب تطلعات المجتمع السعودي، ويسهم في إعداد أجيال متعلمة وملهمة وقادرة على إحداث التغيير الإيجابي.