(1)
يأخذنا كتاب «رِدِّية التراث الحي»، لمؤلفه السعودي د. عثمان محمود الصيني في رحلة ممتعة من المعرفة والتنوع الثقافي. يجوب بنا الكتاب -في رحلته- بين التراث والمعاصرة، وبين التاريخي والواقعي المعيش، وبين الشعري والنثري، وبين المديح والهجاء، وبين الإنس والجن، وبين المشترك العربي والخصوصية المحلية، وبين المادي واللامادي، وبين الأدبي واللغوي، وبين الفصيح والعامي، وبين الرسمي والشعبي، إلى غير ذلك من تلك الثنائيات التي بقدر ما تكشف عن تنوع القضايا المعرفية التي يطرحها الكتاب، فإنها تكشف عن العقلية العلمية الرصينة، والروح البحثية الجريئة للمؤلف، الذي يأخذنا في سلاسة وعمق في طرح العديد من القضايا المهمة، التي تتعلق بالتراث العربي المشترك عامة، والسعودي خاصة.
في سلاسة وبساطة يثير الكتاب مجموعة من القضايا العميقة كتلك التي يتوقف -فيها- عند حالة التداخل بين الإنس والجن، وتلك الحكايات التي عرفها تراثنا العربي منذ العصر الجاهلي، حول دور الجن في حياة العربي، ونظرا لهذا التداخل الكبير فيما بينهما، سواء عربيا أو عالميا، وما يرتبط بهما من معتقدات موغلة في القدم، فقد نشأ علم يسمى بعلم الشياطين أو Demonology، الذي يدرس علم الشياطين والجن والمعتقدات المتعلقة بها بصورة منهجية. وهو علم، وإن اتخذ صفة المنهجية العلمية، لكنه متأثر حسب دارسيه بالمعتقدات الأسطورية، والأنثروبولوجية والأيديولوجية، بحسب ما يخلص المؤلف/ ص 65.
ويأخذنا المؤلف- بعدئذ- للحديث عن الشعراء وقرنائهم، وبأن لكل شاعر قرينه، الذي يلقنه الشعر. وفي حديث المؤلف عن العلاقة بين الشعر والجن، التي تأخذ شكل أساطير تناقلتها كتب التراث، ما يجعلنا نتوقف عند نظرتين لمثل هذه الأساطير..
أولاهما: نظرة قداسة قوامها الاعتقاد والإيمان بمثل هذه الأساطيرعند العرب الذين عايشوا زمن نشأة هذه الأساطير وتداولها، ذلك لأنها تؤدي وظيفة محددة داخل هذا المجتمع الذي يتداول هذه الأساطير.
وثانيتهما: نظرة تقوم على اعتبار مثل هذه الأساطير/ الحكايات مثارا للتندر والطرافة، اعتمادا على نظرة يشوبها الاستخفاف؛ ذلك لأنها فقدت وظيفتها العقائدية، مع مرور الزمن؛ وإحلال التفكير العلمي محل التفكير الأسطوري.
هذا ما يفجره د. عثمان الصيني في سلاسة، وبعمق- في الوقت نفسه - وهو يفرق بين عصري الأسطورة والعلم/ ص 68. فالأسطورة- في رأيي، وربما يتفق معي د. عثمان الصيني في هذا الرأي- ليست نوعا من الخرافات أو الخزعبلات أو الأكاذيب أو الأباطيل، على نحو ما يراها البعض، بل هي- في غياب الدين والعلم- تعد إجابة عن سؤال كوني يؤرق الإنسان، فتصير عقيدة عند هذا الإنسان الأول، إلى أن يأتي العلم أو الدين فيقدم إجابة لهذا السؤال الكوني، عندئذ تهبط الأسطورة من عليائها المقدس، وتفقد وظيفتها الدينية الاعتقادية، فتصبح ذات وظيفة دنيوية، فيربطها الإنسان الجديد بالخرافة والطرافة.
وفي الإطار نفسه، تأتي قيمة الكتاب- كذلك - في ربطه اللغوي بين «الشَّعر والشِّعر»، في ثنايا طرحه لثنائية الإنس والجن في المخيلة العربية/ ص 74 . وبقدر ما ينطلق المؤلف من التوافق للكلمتين من حيث الجذر اللغوي لهما، فإنه يقوم بالربط بينهما من منظور ثقافي، وينتهي إلى نتائج مهمة في ضوء ثنائية الإنس والجن.
وفي ضوء ثنائية العربي المشترك، والسعودي المحلي، يتوقف الكتاب عند أولهما في تلك المقالات المهمة المخصصة لاستعراض هذا المشترك العربي، كما في «الذئب العدو الصديق القاتل الحامي»، و»هل ولَّى زمن الأمثال؟»، و»أسامينا علامات عبر التاريخ»، و»يستوي فيه المذكر والمؤنث»، و«الشام واليمن اتجاهان»، و»حضارة الفيديو كليب». كما يبرز الكتاب الخصوصيات الثقافية المحلية في المملكة العربية السعودية في عدد من المقالات/ الموضوعات، منها: «لماذا القهوة السعودية وليست العربية؟»، و»تاريخ وثقافة شرب الشاي»، و«أسماء البرد في الاستعمال الشعبي»، و«الجائزة وفقه المواضع»، و«عود على بدر»، و»تبدل مفهوم الإنتاج في مكائن الخياطة»، و«غزايل وبوا الدنيا سعودية»، و»أنسنة الأماكن ومستويات القراءة»، و»نبكي على العيد أم نبكي على طفولتنا».
وبالرغم من طغيان هذه الثنائية على الكتاب، أعني ثنائية البحث عن المشترك الثقافي العربي، والخصوصية الثقافية المحلية السعودية، فإن ثمة عنصرا ثالثا يحتل مكانة بارزة في الكتاب يتمثل في الطابع الثقافي الإنساني في الكتاب، على نحو ما يبرز في عدد من المقالات المهمة، مثل: «تسميات الأيام والأسابيع والأشهر»، و«الرقم 40»، و»البحث عن البطل»، و»الفروق اللغوية بين الأفراد والأجيال». ما نخلص إليه أن الكتاب يدور في دوائر ثقافية ثلاث، متداخلة ومتشابكة، هي: دائرة الثقافي المحلي الخاص، ودائرة الثقافي العربي المشترك، ودائرة الثقافي الإنساني العام.
(2)
من بين المقالات/ القضايا العديدة التي يثيرها كتاب «رِدِّية التراث الحي/ 2024» للمفكر السعودي الدكتور عثمان محمود الصيني، توقفه عند رحلة مصطلح «التراث». ومما تنبغي الإشارة إليه أن مصطلح التراث- عندما يُطلق في عمومه، دونما تحديد- يُقصد به التراث العربي الرسمي الفصيح، فلا يندرج تحته كل هو شفاهي أو شعبي. وبناء على ذلك يفرق المؤلف بين مصطلح «التراث»، ومصطلح «التراث الشفاهي». فالتراث- بحسب المؤلف- يُطلق على «كل النتاج الأدبي والثقافي والفكري والعلمي المكتوب بالدرجة الأولى باللغة العربية الفصحى/ ص 18». أما التراث الشفاهي- وفقا للمؤلف- فـ»كان يرد على استحياء لأنه كان مرتبطا بالعامي غير الفصيح، وهو ما لم يكن معترفا به رسميا عند النخبة من الأدباء والمفكرين والباحثين/ ص 19». وهنا يشير المؤلف إلى الأزمة الحقيقية التي تكمن وراء الموقف من دراسة كل ما هو شعبي أو شفاهي، تلك الأزمة التي تتمثل في ذلك التناقض الذي يعيشه بعض مثقفي النخبة العربية، من حيث قبولهم في جلساتهم الخاصة لكل ما هو شعبي، سواء بروايته أو الاستماع إليه، أو بإبداء إعجابهم به، في حين يرفضون هذا النوع من الإبداع الشعبي على الملأ؛ رفضا منهم للاعتراف بالقيمة الأكاديمية والعلمية للإبداع الشعبي. وهو ما أطلق عليه المؤلف مصطلح «النفاق الثقافي/ ص 19»؛ وذلك رغبة من هؤلاء المثقفين النخبويين من عدم مواجهة ذلك التيار المعادي لكل ما هو شعبي، للدرجة التي وصف فيها أصحاب التيار المحافظ الرافض المشتغلين بالدرس الشعبي ب»الشعوبية الجديدة»، على نحو ما وصفوا المشتغلين به بأنهم أعداء الوطنية، والقومية العربية، بل بأنهم أعداء الثقافة الخالدة من كل تراث/ ص19. وذلك بغض النظر عن مبررات أصحاب هذا التيار المحافظ الرافض، وهو ما قمنا بتفنيده- بقدر من التفصيل- في مقال مخصص لذلك بعنوان «الثقافة الشعبية في الميزان/ 2012.
كل ما سبق وجد المؤلف نفسه مضطرا لعقد تفرقة ذكية ودقيقة ومهمة بين مصطلحي «تراث» و»ميراث». فمن وجهة نظره، إذا كان مصطلح الميراث يختص بالمادي من الأشياء، فإن مصطلح التراث يختص بغير المادي والفكري/ ص 19. وفي هذا الإطار، كنت أتوقع أن يعقد المؤلف مقارنة منطقية بين مصطلحي «التراث» و»الموروث»، وذلك في ثنايا البحث عن المصطلح الأكثر ملاءمة ليصبح بمثابة الترجمة العربية للمصطلح الإنجليزي Folklore. فمعروف تعدد المصطلحات العربية التي أطلقها الباحثون للدلالة على هذا العلم، من قبيل «تراث شعبي»، و»مأثورات شعبية»، و»مرددات شعبية»، و»موروثات شعبية»، و»ثقافة شعبية»، هذا إلى جانب استخدام مصطلح «فولكلور»، تعريبا للمصطلح الإنجليزي. فعلى نحو ما سبقت الإشارة، فإنه عندما يُطلق مصطلح «تراث» في عمومه فالمقصود به التراث العربي النخبوي، في حين عندما يكون المقصود من هذا التراث ذلك الجانب الشعبي، فلا بد- عندئذ- من استخدام مصطلح «التراث الشعبي»؛ للدلالة على هذا الجزء من تراثنا العربي. لا شك أنه يوجد اختلاف بيِّن وواضح بين مصطلحي «التراث الشعبي»، و»المأثور الشعبي». فمصطلح التراث يعني ما توارثه الخلف عن السلف، مع المحافظة عليه، دون أن تمسه يد التغيير، وهو ما يعني ثبات «التراث»، وعدم قدرته على التغيير، أي أن هناك ثباتا للنص، فلا يطال النصَّ تغييرٌ، سواء بالحذف أو الإضافة، فالتراث يعني ثبات النص وسكونه. في حين يتسم مصطلح «المأثور» بالمرونة، والقدرة على التغيير، سواء بالحذف أو الإضافة. فالمرونة تعد من أهم خصائص المأثورات الشعبية؛ حيث إن المواد الشعبية قادرة على تطوير نفسها؛ بهدف مواكبة الظروف الاجتماعية والثقافية والحضارية الجديدة، وخير مثال على ذلك الحواديت والسيرة الهلالية وبعض العادات والتقاليد، كتلك الخاصة بالموالد. فهي مأثورات رغم انتمائها إلى فترة تاريخية ماضية، فإنها تمكنت من مواكبة الظروف الاجتماعية المتغيرة، وهو ما كتب لها الاستمرارية، فاستمراريتها تأتي من قدرتها على أداء وظائف حية، وليست ماضوية. أما المأثورات الشعبية التي لا تتمكن من تطوير نفسها، فإنها تكتسب وظيفة تاريخية، ترتبط بهوية المجتمع ووجوده، وتصبح بالتالي جزءا من تراث الأمة، مثل سير ذات الهمة وسيف بن ذي يزن وعنترة، شأنها في ذلك شأن الشعر الجاهلي وكتابات الجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون وغيرهم، ممن صارت كتاباتهم جزءا مهما من التراث. ولقدبق أن توقف الباحث المصري الراحل صلاح الراوي عند هذه التفرقة بين مصطلحي «التراث»، و»المأثور»؛ إذ يقول في كتابه «الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة/ 2016»: «إن الشيء الذي لا يتطور يجمد ويموت، والجماعة الشعبية تدرك هذا تماما بحسها التلقائي وخبرتها الطويلة. ومن هنا، نجد أمامنا نوعين من المادة الشعبية، نطلق على أحدهما التراث الشعبي، وعلى الآخ ر المأثورات الشعبية.. فالتراث مادة تدخل عالم التاريخ، بينما تدخل المأثورات الشعبية عالم الحياة الآنية المتجددة، ولا يسمح لها بهذا إلا حيويتها وقدرتها على الاستجابة للوظائف الجديدة. ولهذا، فإنها تدعم نفسها دائما بعناصر التطور، فالفن الشعبي يتطور، ولا يُطوَّر من خارج الجماعة المبدعة والمتبنية له/ ص 40». ولعل هذه التفرقة بين المصطلحين، وما يتسم به مصطلح المأثور الشعبي بالمرونة، والقدرة على مواكبة الجديد، ينسجم مع تعريف منظمة اليونسكو لمصطلح «الفولكور»، ذلك التعريف الذي يتبناه المؤلف/ د. عثمان الصيني، الذي يرى أنه «الثقافة التقليدية الشعبية، وهو عبارة عن جملة أعمال إبداعية نابعة من مجتمع ثقافي وقائمة على التقاليد، تعبر عنه جماعة أو أفراد معترف بأنهم يصورون تطلعات المجتمع بوصفه تعبيرا عن الذاتية الثقافية والاجتماعية لذلك المجتمع، وتتناقل معاييره وقيمه شفهيا، أو عن طريق المحاكاة وغيرها من الطرق، وتضم أشكاله اللغة والأدب والموسيقى والرقص والألعاب والأساطير والطقوس والعادات والحرف والعمارة وغيرها من الفنون/ ص 21».
(3)
لعل من السمات الشخصية التي يتسم بها الباحث السعودي د. عثمان محمود الصيني هو الجرأة في طرح القضايا. وسمة الجرأة، وبكل أسف، من السمات البحثية التي يفتقدها العديد من الباحثين. استشعرت توافر تلك الصفة في المؤلف، من خلال جرأته في طرح العديد من القضايا البحثية، التي كان يصعب طرحها في المجتمع السعودي في فترات سابقة، مما تسبب في أن يصبح في مهب النقد من قبل أنصار التيار المحافظ، الذين كانت لهم الغلبة وقتئذ. تأكدت لي تلك الصفة البحثية في المؤلف، وأنا أطالع مقالته المنشورة بعنوان «التراث الشعبي، جمعه ودراسته» في صحيفة عكاظ منذ حوالي أربعين عاما تقريبا، وتحديدا في الثامن من شهر ربيع الأول عام 1404 هجريَّة. فالمقال يسعى إلى توجيه اهتمام الباحثين السعوديين والعرب إلى ضرورة الوعي بقيمة المأثورات الشعبية؛ ومن ثم بأهمية جمعها وتصنيفها ودراستها دراسة علمية. يأتي تاريخ نشر هذا المقال، وإثارة هذه القضية بعد عامين تقريبا من نشر الباحث السعودي عبد الله بن محمد بن خميس لكتابه المهم «الأدب الشعبي في جزيرة العرب/ 1982». هذا الكتاب، الذي كان سببا في أن يجد مؤلفه نفسه في مرمى نيران الاتجاه المحافظ آنذاك، هذا بالرغم من قناعة معظم أنصار هذا التيار بقيمة هذه المأثورات (خاصة الشعر النبطي) في مجالسهم الخاصة، دون قدرتهم على المجاهرة بهذا الرأي في العلن، وهو ما يؤكده د. عثمان الصيني بنفسه في كتابه/ ص 19. في هذا السياق الثقافي المحافظ الرافض لكل ما هو شعبي أو عامي أو لهجي (ليس في السعودية فحسب، بل في مختلف أنحاء الدول العربية)، يخصص المؤلف مقالا مطولا لتسليط الضوء على أهمية جمع المأثور الشعبي، وتوثيقه، وتصنيفه، ودراسته درسا علميا داخل المؤسسات الأكاديمية السعودية. يستهل المؤلف مقالته المهمة بالحث على أهمية جمع المأثور الشعبي السعودي خاصة، والعربي عامة، على نحو علمي؛ ذلك لأن الجهود المبذولة في سبيل جمعه حتى الآن- من وجهة نظره- لا يتوازى مع القيمة الاجتماعية والثقافية لهذا المأثور، بل هي أقل بكثير مما ينبغي أن يُبذل من جهود. فـ «نظرة عامة على ما جُمع من هذا التراث الشعبي تبين لنا مبلغ الجهد الذي يلزمنا لجمعه بطريقة علمية صحيحة، بحيث يُسجل ويُدوّن كما تلقيناه في الأصل دون تحريف/ ص 27». فهذا المأثور الشعبي يصبح مرجعا علميا وتاريخيا وثقافيا، يمكن الرجوع إليه كلما دفعتنا الحاجة إليه. ويحثنا المؤلف على ضررة التسجيل الكتابي لهذه النصوص الشعبية المجموعة، إلى جانب التسجيل المرئي والمسموع لها.
وجد المؤلف نفسه ملزما بتعريف القارئ بما يقصده بالأنواع الأدبية الشعبية، التي يدعو إلى جمعها، وتدوينها، وتوثيقها، وتصنيفها وتصنيفا علميا. يصنف المؤلف أهم الأنواع/ الأشكال الأدبية الشعبية التي ينبغي القيام بجمع نصوصها، والتي يحددها فيما يلي:
- الشعر الشعبي، خاصة الشعر النبطي، والذي نال الحظ الوافر من المهتمين بالتراث، سواء في السعودية، أو منطقة الخليج العربي؛ وذلك نظرا إلى اهتمام الناس به، وإقبالهم عليه، وكثرة شيوعه وتداوله على الألسنة. ومن شدة الاهتمام بهذا النوع الشعبي، راح البعض يحصر الأدب الشعبي في هذا اللون الأدبي، على نحو ما راح الباحث السعودي يعنون لكتابه بـ «الأدب الشعبي في جزيرة العرب/ 1982»، ثم نجده لا يدرس سوى الشعر النبطي. ويقر د. عثمان الصيني بأنه بالرغم من الاهتمام بالشعر النبطي، فإن ما دُوِّن منه أقل بكثير مما كان ينبغي جمعه وتدوينه.
الأمثال الشعبية: يعتبر أكثر الأنواع الشعبية التي حظيت باهتمام في السعودية؛ لارتباطه بالواقع.
القصص الشعبي: الذي لم يظفر بما يستحق من العناية والاهتمام بالجمع والدرس والتحليل. هذا إلى جانب بعض الأنواع الأدبية الشعبية الأخر ى، مثل النكت والمُزوح، والروايات التاريخية الشعبية.
يتوقف المؤلف عند مراحل الاهتمام بالتراث الشعبي، والتي يحددها في ثلاث مراحل رئيسية، تتمثل في مرحلة الجمع الميداني، والتي تعقبها مرحلة التدوين والتوثيق والتصنيف العلمي، ثم المرحلة الغائية، والتي يُقصد بها الدراسة العلمية الجادة لما تم جمعه وتدوينه. كما يتوقف المؤلف عند أهم معوقات الاهتمام بالمأثور الشعبي، والتي يحددها في أمرين، يتمثل أولهما في قناعة بعض الباحثين بأن «مثل هذه الدراسات تعد انحرافا عن مسار التراث في صورته الصحيحة المثلى، وإيثارا للسهولة من قبل البعض الآخر في طرق عبدت مسالكها، ويسَّرت سبلها ووسائلها/ ص 32». في حين يتمثل ثانيهما في صعوبة تدوين هذه النصوص الشعبية، التي غالبا ما تُروى بلهجاتها المحلية.
(4)
تتضح الجرأة البحثية للباحث السعودي د. عثمان محمود الصيني في تخصيصه إحدى محاضراته التي ألقاها بنادي الطائف الأدبي، للحديث عن اللهجات العربية، وأهمية تدوينها، ومدى امتدادات هذه اللهجات العربية القديمة في نظيراتها الحديثة. وهي محاضرة تضمنها كتاب «رِدِّية التراث الحي/ 2024». والملفت للنظر أن هذا الطرح المستنير لأهمية دراسة اللهجات العربية عامة، والسعودية خاصة، قام بطرحه منذ وقت مبكر، منذ حوالي واحد وأربعين عاما، وتحديدا عام 1403 هـ/ 1983م. يتطرق المؤلف- في ثنايا كتابه- لأهمية دراسة اللهجات العربية، من زاويتين. تتمثل أولاهما: أن دراسة اللهجات، ووضع طريقة أو منهجية لتدوينها، يساهم في فهم النصوص الشعبية، المكتوبة باللغة المحكية. فهذه الطريقة/ المنهجية، التي تُكتَب فيها الكلمة كما تُنطق، بحيث «يقرؤها القارئ العادي حسب نطقها دون أي خطأ، وبشيء من الجهد والمران في المرات الأولى تصبح الكتابة تلقائية وسهلة/ ص 32». في حين يتمثل ثانيهما في أن تدوين اللهجات ودراستها يساهم في التعرف على التطور اللغوي الذي تمر به اللغة العربية ولهجاتها، كما إنها كاشفة- كذلك- عن العمق الثقافي للشعوب المتحدثة بها.
مما تنبغي الإشارة إليه- في هذا السياق- أن دراسة اللهجات العامية العربية بدأت مع المستشرقين، كتلك البحوث والدراسات التى قدمت عن اللهجة المصرية من قبل الإيطالى «نالينو»، والروسى «نروتسكى»، والألمانيان «ليتمان»، وبرجشتراسر، والإنجليزيان «إدوارد لين»، و»ميتشل»، وقدم الأخير بحثاً عنوانه «مقدمة فى العامية العربية فى مصر/ 1956»، والباحث الأمريكى «هاريل»، ببحثه المعنون بـ « أصوات العامية فى مصر/ 1957». كما قدمت دراسات عن اللهجات العربية، ففى سوريا درس الفرنسى «كانينتو» لهجتى «تدمر» و «دمشق» ، ودرس عمانوئيل ماتسون اللهجة اللبنانية فى بحث عنوانه «دروس صوتية فى اللهجة العامية فى بيروت» ، ودرس الألماني «ماكس لور» لهجة القدس، ودرس «مايسنر» اللهجة العراقية بدراسته عن «لهجة بغداد» . أما المستشرق الروسي «برازين» فقد درس لهجات الجزيرة، وما بين النهرين، كما قدمت دراسات ـ فى هذا السياق ـ عن لهجات الحجاز واليمن ونجد، وشمال أفريقيا، كلهجة الجزائر والمغرب الأقصى، وتونس واللهجة الطرابلسية. كما خصص المستشرقون مجلات لدراسة اللغات الشرقية وآدابها، كتلك المجلة الألمانية التي أنشأها «هارتمان» عام 1900. هذا إلى جانب العديد من المؤتمرات التي عقدت في العديد من الجامعات والمعاهد الأوربية حول دراسة العامية العربية أو دراسة إحدى لهجاتها.
ومن الدراسات العربية الرائدة في مجال دراسة اللهجات العربية المختلفة في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، دراسات إلياس بقطر السيوطي (1784 1821-)، التي اهتمت بدراسة العامية، والتي منها «معجم العامية في مصر والشام والمغرب»، ودراسات طنوس الشدياق، والتي منها: «معجم اللغات العامية». ومنها كذلك كتب خليل اليازجي (1856 1889-)، والتي منها: «الصحيح بين العامي والفصيح»، وكتب الدكتور فيليب حتى (1886 1978-)، والتي منها: «اللغات العامية بين لبنان وسورية. وفي سياق الاهتمام بالعامية المصرية، نجد معجم التحفة الوفائية في أواخر القرن التاسع عشر.
كما أسهم العلماء العرب الذين درسوا اللغة العربية [الفصحى والعامية] في المعاهد والجامعات الغربية، أسهموا ببحوثهم ودراساتهم فى الاهتمام باللهجات العربية. فكتب محمد عياد طنطاوي ـ الذى درَّس في الجامعة الإمبراطورية ببطرسبورج بروسيا ـ عن «رسائل في العربية العامية» ، وكتب ميخائيل الصباغ السوري ـ الذى درَّس العربية في باريس ـ «اللغة العربية العامية في مصر والشام» ، ودرس ميخائيل الفغالي ـ الذى درَّس العربية في جامعة بوردو الفرنسية ـ بحوثاً في اللهجات العربية، مثل «لهجة كفر عبيدا»، وهى قرية لبنانية. وأكاديميا، ساهم اللغويون العرب ـ منذ أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته ـ بدراساتهم في هذا المجال؛ خاصة مع سفر عدد من الدارسين العرب في بعثات إلى الجامعات الأ وروبية، فحصلوا على درجات الماجستير والدكتوراه عن دراسة لهجة من اللهجات العربية. فالدكتور إبراهيم أنيس نال درجة الدكتوراه من جامعة لندن عن «لهجة القاهرة»، ثم تتابعت دراساته ـ بعد ذلك ـ عن اللهجات مثل «في اللهجات العربية/ 1952 «، ودرس تمام حسان «لهجة الكرنك»، و»لهجة عدن»، ونال بهما درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن، كما درس عبد الرحمن أيوب «لهجة الجعفرية» و»لهجة النوبة»، ونال بهما الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن. كما قدم عبد الحميد طلب دراسته «من لهجات الجزيرة وآدابها في السودان / 1958 «، ونال بها درجة الدكتوراه من آداب القاهرة. وقد تزامنت هذه الدراسات مع اللجنة التي شكلها المجمع اللغوي لدراسة اللهجات العربية في الأقطار العربية المختلفة. ثم توالت بعد ذلك الدراسات العربية فى هذا المجال، كدراسة الدكتور عبد المنعم سيد عبد العال عن «لهجة شمال المغرب: تطوان وما حولها / 1968»، ودراسات عبد الصبور شاهين: «دراسات لغوية/ 1976»، و»في التطور اللغوي». غير أن مجموعة المقالات التي نشرها المصري د. خليل محمود عساكر في ثلاثينيات القرن الماضي بمجلة المجمع اللغوي بالقاهرة، تعد محاولة جادة لتدوين العامية العربية عامة، والمصرية خاصة، وذلك بدءاً من العدد الثامن. وكانت هذه المقالات بمثابة اقتراح تقدم به د. عساكر بوصفه خبيراً بلجنة اللهجات بالمجمع، وذلك بهدف التوصل إلى طريقة موحدة لكتابة نصوص اللهجات العربية الحديثة بحروف عربية. لقد جاءت هذه المحاولة تنفيذًا للدعوة التي وجهها المجمع لأعضائه بضرورة «أن ينظم المجمع دراسة علمية للهجات العربيةي الأقطار المختلفة». وفي إطار الدعوة نفسها، كتب الأستاذ عباس محمود العقاد في مجلة المجمع ـ أيضًا ـ بعض المقالات التي تحث الهمم على أهمية دراسة اللهجات. وفي السياق نفسه، تأتي دراسة عبد العزيز مطر عن «لهجة البدو».
في هذا السياق تأتي المحاضرة المنشورة في الكتاب بعنوان: «اللهجات العربية القديمة وامتداداتها في الحديثة»، التي يقدمها المؤلف من منظور ثقافي، فبحسب المؤلف، «نشأة اللهجات تخضع لظروف عدة جغرافية واجتماعية وسياسية/ ص 35». ويتوقف المؤلف عند أهم مظاهر اللهجات العربية القديمة، والتي يدرجها في أربعة عناصر، هي: دلالة المفردات، والبنية الصرفية، والتركيب النحوي، والتغييرات الصوتية. ويفند بالمناقشة ما يُطلق عليه أسطورة أن الفصحى هي لغة قريش، ويخلص إلى أن الفصحى هي لغة مشتركة للقبائل جميعها، من خلال عدة نقاط، هي: نزول القرآن بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قرشي، ونزول القرآن على سبعة أحرف، تأكيد علماء اللغة أن في اللغة المشتركة خصائص لا توجد في لغة قريش، كما توجد في لهجة قريش خصائص لا توجد في اللغة المشتركة. كذلك تأكيد أن النصوص الأدبية الجاهلية التي بين أيدينا تكاد تكون خالصة لقبائل غير قريش، فلا يوجد شاعر جاهلي قرشي فحل، ولم يصل إلينا نص أدبي جاهلي مشهور منسوب إلى قريش. كما إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى لهجة قريش بوصفها لهجة العرب جميعا. وأنه عندما حدد النحاة قبائل الفصاحة، لم يقصروها على قريش، بل ضمت الفصاحة- كذلك- قبائل عربية أخرى من الحجاز ونجد. أن مركزية لهجة قريش تجاريا ودينيا، لا يدل على سيادتها على بقية اللهجات، ولم يقدم أحد دليلا على تغليب لهجة قريش على ما سواها. وفي الحقيقة، وبرغم قيمة الطرح السابق حول مكانة لهجة قريش، فإنه في حاجة إلى نقاش جاد، في سياق آخر، ليس هذا مجاله.
يختتم المؤلف دراسته تلك، بالتوقف عند أهم الظواهر الصوتية والصرفية والتركيبية في اللهجات العربية الحديثة، ومحاولة ربط هذه الظواهر اللهجية الحديثة بالتراث اللهجي العربي؛ ليخلص إلى حقيقة مهمة من وجهة نظره، تتمثل في أن اللهجات العربية الحديثة لم تنشعب عن العربية الفصحى، ولم تتطور عنها، في مخالفة لرأي لغوي سائد بهذا الشأن. وفي نظره أن اللهجات العربية الحديثة ليست سوى امتداد للهجات العربية القديمة، وليس الفصحى. ويخلص المؤلف إلى التوقف عند فوائد دراسة اللهجات، والتي يكمن أهمها في تقديم قراءة ثقافية للمجتمعات العربية من خلال دراسة لهجاتها، فدراسة اللهجات العربية تفيدنا في معرفة هجرات القبائل العربية، ومواطنها الأصلية، ومعرفة مظاهر لهجاتها القديمة قبل الهجرة وبعدها. إن كل ما سبق يؤكد- لنا- قيمة الكتاب، الذي بصدد مناقشته، والذي يحتاج منا إلى مزيد من القراءة؛ لما يطرحه من قضايا عديدة جديرة بالتوقف عندها، بطرحها للنقاش.
** **
يقلم د. خالد أبو الليل - أستاذ الأدب الشعبي، بقسم اللغة العربية وآدابها.. كلية الآداب، جامعة القاهرة