أ.د.صالح معيض الغامدي
تقدم السيرة الذاتية، باعتبارها جنسا أدبيًا، نظرة فريدة وحميمة لحياة الأفراد وتجاربهم. إنها شكل من أشكال الكتابة التي لا تهدف إلى أن تكون وثيقة تاريخية فحسب، بل إلى تزويد القراء أيضًا بفهم عميق للحالة الإنسانية الوجودية، فمن خلال فن السيرة الذاتية يستطيع الكتّاب استكشاف آفاق الكتابة وأساليبها والتعمق في تعقيدات الوجود الإنساني.
إن أحد أهم جوانب السيرة الذاتية المهمة هو قدرتها على التقاط جوهر حياة الشخص وهويته، فمن خلال سرد الكتاب لتجاربهم الشخصية وأفكارهم وعواطفهم، يمكنهم بناء قصة حياتية مقنعة وأصيلة في نفس الوقت. ومن خلال عملية الاستبطان والفحص الذاتي التي تستلزمهما كتابة السيرة الذاتية، يمكن للكتاب أيضا التفكير في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، مما يعطي القراء لمحة واضحة عن أفكارهم ومشاعرهم العميقة. كما تمكنهم السيرة الذاتية من فحص أساليب تواصلهم مع غيرهم من البشر ومراجعتها إن كانت تحتاج إلى مراجعة وربما إلى إصلاح.
كما تسمح السيرة الذاتية أيضًا لكتابها بالتعامل مع موضوعات حياتية واسعة ترتبط بالمجتمع الذي يعيشون فيه وثقافته وتاريخه من خلال وضع سرودهم الشخصية ضمن سياق اجتماعي وثقافي أوسع. كما يمكن للمؤلفين استكشاف الطرق التي تتقاطع بها حياتهم مع قوى العالم الداخلي والخارجي من حولهم. وهذا التفاعل بين الشخصي والمجتمعي والعالمي هو ما يمنح السيرة الذاتية أهمية انسانية عميقة، ومقروئية واسعة.
علاوة على ذلك، فإن السيرة الذاتية توسع طرائق السرد التقليدية وتفتح إمكانيات جديدة للتعبير والإبداع. . وبالنظر إلى زئبقية المعايير المتبعة في كتابة السيرة الذاتية ومرونتها، يمكن لكتاب السيرة الذاتية تجريب بنى سردية ووجهات نظر وأساليب سردية جديدة ومختلفة لنسج سرد غني من حياتهم. وقد يوظف بعض كتاب السيرة الذاتية الصور الحية والاستعارة والملامح الرمزية التي تمكنهم من إلتقاط بعض تعقيدات التجربة الإنسانية بأساليب جمالية غير مباشرة يتردد صداها بعمق لدى القراء.
كما يمكن للكتاب من خلال تبني جنس السيرة الذاتية تجاوز قيود رواية القصص التقليدية ورسم آفاق جديدة في عالم الكتابة. ومن خلال استكشاف كتاب السيرة الذاتية لحياتهم وتجاربهم، فإنهم يستطيعون التواصل مع القراء على المستوى الشخصي، وكذلك المساهمة في تحقيق فهم أوسع للتجربة الإنسانية. ولذلك، تعتبر السيرة الذاتية أداة قوية لاكتشاف الذات والتفكير فيها والتعبير الإبداعي عنها.
ولا يمكن من وجهة نظرنا تعيين بعد واحد من أبعاد السيرة بوصفه البعد الأهم في السيرة الذاتية، فهناك ثلاثة أبعاد رئيسة للسيرة الذاتية لابد لكتاب السيرة الذاتية من التركيز عليها وإعطائها حقها من الاهتمام، وهي: الأسلوب الكتابي؛ والمضمون أو التجارب الحياتية؛ والحبكة القصصية أو الحياتية. وعلى الرغم من أن كثيرا من كتاب السيرة الذاتية يحاولون إيجاد نوع من التوازن بين هذه الأبعاد في كتابتهم لسيرهم الذاتية، إلا أن أحد هذه الجوانب قد يطغى على الجانبين الآخرين، فبعضهم يركز على جعل تميز سيرته في أسلوبيتها ولغتها الأدبية الرفيعة، ويفسح للخيال اللغوي في سيرته مجالا واسعا. أما بعضهم الآخر فيركز على تجويد مضمونها وثرائه، أي على سرد الأبعاد التوثيقية وعلى انتقاء سرد التجارب الحياتية الثرية التي تبين كفاحه في هذه الحياة والمكانة التي يحتلها فيها، أما البعض الآخر من كتاب السيرة فيركز جل اهتمامه على التقنيات السردية التي يوظفها في كتابة سيرته الذاتية، ويفسح مجالا واسعا للخيال السردي في سيرته إلى الحد الذي يقربها أحيانا من جنس الرواية.
والحقيقة أن التوازن في هذا الشأن أمر مطلوب من كتاب السير الذاتبة ومن قرائها ونقادها على حد سواء، فتغليب جانب واحد من هذه الحوانب على حساب الجانبين الآخرين قد يضر بحقيقة هذا الجنس الأدبي ومزيته التي جعلت منه جنسا أدبيا مختلفا عن بقية الأحناس الأدبية الأخرى!!