د. شاهر النهاري
ألسنا كائنات مثل ما ومن يعانق الحياة من حولنا، من حيوانات، وطيور، وحشرات، ومن نباتات، ومن كثير مما يُرى، ولا يُرى؟
ألسنا نشاركهم عجب حياة تبزغ فينا ومنا، وتزهر في أنفسنا ولعا وليونة وتشبثا بالجماليات؟
وكم نعطي للحياة، ونأخذ منها الكثير، وهي تهبنا وتأخذ منا، حتى يأتي اليوم، الذي نشعر فيه بأن الزمن قد عبر بنا وحولنا طويلا، وأن التجاعيد تغزو نعومة ونضارة وجماليات أجسادنا، وأن الترهل والوهن «يكرمش» أوراقنا، والشقوق تبرز، واللون يتبدل، من زاهي ألوان الربيع، إلى العتم، مزامنة مع مفارقات هوة تتسع بيننا وبين اليافعين، من لا زالوا عابثين متفائلين يمرحون ويقفزون وسط ملاعب مراهقتهم وشبابهم ونضجهم، وأن أعيننا تتكدر صفوة إبصارها، ومفاصلنا تصبح أكثر عنتا، من تناقص قدرتنا على بلوغ ما كنا نسمو إليه من قفزات واستقواء وشغب وتمايل مع النسائم بغنج ليونة وطرب، ساخرين نهادي الدنيا نظراتنا الجريئة، وكلمات عابثة، وروائح تصدر من أجسادنا، وتتفاعل حبا مع الموجودات، سباحة في ينابيع الصفاء والتلوث.
ألسنا حينها نعبر منعطفات جديدة تشعرنا بالوحدة، فنظل ننظر لمن هم في نفس ما نحن فيه من ذبول، ونقارن، فلعلنا نجد تميزا عنهم، تفرحنا أي زيادة، وتذبحنا شبهة النقص، ونعود نطمئن أنفسنا بأن وقت الرحيل لم يحن بعد، وأن لنا فرصا أخرى، ولو في تخيلنا بأنا لن نغادر الآن، ولا بعد قليل، ومن يدري؟
ألسنا نصبح أكثر عزلة وخمول، وبحث عن متعة بالنظر، بعيدة عن الجهد، أو باجترار صور الماضي، والسعادة ببراعم منا تعيش حولنا، نرى فيها ما مر سعادة وغرورا بطفولتنا وشبابنا، أصبحنا نفتقده في كياناتنا، مثل أوراق الخريف الصفراء، وقد عاندتها الفصول بجمدة شتائها، وبهجة ربيعها، ومتانة صيفها، حتى وصلنا إلى خريف يشرقنا بأدمعه الحزينة.
وحيث تتناثر الصور، تحت أجذع الأشجار، وترتمي الأوراق حزينة بين أيدي العواصف، لانعود نقوى التشبث بالأغصان، ولا نستعيد رونقها القديم، ولا نعود نعرف كيف وأين ستحملها رياح الخريف، أو أيادي من سيشيعونها إلى حفرة مستقر، تذوب فيه، من التراب إلى التراب.
ورقة الخريف الناشفة، لم تكن هكذا في سابق رونق تواجدها، فلا يغرنك لونها المعتم حسرة فتاتها، حتى ولو وصفه الشعراء بلمعة الذهب، وليل يطول، فهو للذهاب أقرب منه للذهب، ولا تحزن عليها بقدر ما فقدت من أجزاء، فقد تبرعمت ورويت وعاشت، واستخدمت محيطها خير استخدام، قبل أن يمر زمانها، ويختلف جوارها، وتستحي من بقاء هيبتها بين غرور البراعم، وهي تشتكي كثرة الشقوق، والعتم المنتشر على ملامحها، وطمأنينة الخوف، الذي ظل يزورها مؤخرا بإلحاح التعود، عند كل مقارنة بأوراق جديدة، أو بقايا متحللة مفتتة راحلة ببساط ريح العمر للغياب.
أوشكت الحبكة على الاكتمال، واستدارت السلسلة، وسعدنا بماضي حلقاتها، فمن سار على الدرب وصل، ومن تمتع في فصل وجب عليه التأقلم مع مصاعب فصل بعده، ومن التقط من الزهر والثمر، لا بد أن يعرف يوماً كيف تكون خصوصية الدوس والوحدة، والتحول إلى فتات.
لماذا نحزن على تبخر الوقت؟
ألسنا مثل مكونات الوجود من حولنا، تمتعنا وتعايشنا بما كان لنا، وحتى وإن كان حالنا نقص منذ البدء، أو كانت كياناتنا تعاني من تشوه أو تمرد، فتلك حكاية العيش بين أمواج شواطئ النقص والكمال، بتجاربها، وفرحها وحزنها، ومفارقاتها، وبما يمر بنا من فرص طفو وانحسار، ومن مناطق خوف وصحو مزعج، وأحلام وكوابيس، ومن قصور رمال نبنيها، ننجح أو نفشل، والدورة الكونية تستمر، فلا أحد يعيد الكرة مرتين، ولا أحد يعصى على تبدل المد والجزر، ولا يعبر النهاية كما بدأ قطعة واحدة، حتى ولو احتضنه الجليد، أو حفظ في المتاحف، أو كتب عنه ما يُكتب ويقرأ ويزاد ويعاد، فالخلود لا يكون، وإن ظل هاجسا معنويا، لا حس فيه ولا مشاعر يستوطنها، ويرتقي بها إلى حلم الخروج عن سلسلة النوع، والطبيعة، والامتداد بين الأجيال عبر جينات، لا تعني أننا ما زلنا في الوجود، وتعني!
ليتنا نفهم ذلك خلال مرور مراحل حياتنا المبكرة، فلا نستعجل الشهور، والسنوات، ولا نرتقي على أصابع القدمين كي نطول الغيب، ولا نفرط في فرص أن نحب، ويحبنا غيرنا، وأن نمسح عن عقولنا وصدورنا المنافسة النرجسية، والغل، والانتقام، والحسد، وأن نعطي لكل ساعة حقها، من هجعة وتتبع للجمال، وتمتع بالأدب والفنون والفكر، وعجائب مستحدثات الدنيا، برونقنا بين الأغصان، نتمعن في كل غصن وما يحتوي ويحمل، ونكتب بوجودنا خطوات عمرنا المتأنية، المستزيدة من الحسن والثقافة، والخبرة، والعلم والمعرفة، والمشاعر الطيبة، لنترك أثرا بعدنا، يدل على أننا عبرنا من هنا، ولعل هذا لا يحدث بالتعظيم، ولا بكنز الأموال، ولكن بما يفيد غيرنا من البشر والكائنات والوجود، فعمل الخير أفضل ملايين المرات من تجارة تذبح البشر والكائنات، ونوايا نشر العدل والحريات وتسهيل الصعب، خير من سمعة القهر والعداء والظلم، وإشعال شمعة محبة وعلم وضياء أفضل من حرائق تفني الكائنات حولها؟
لا عيب في الفناء، والعيب في أن نفني غيرنا بتسريع الوقت، والغرور، والكذب، والقسوة، والظلم، والقهر، والتشويه، والخيانات، وسلب حقوق الآخرين.
هل يمكن أن نقوم بذلك رغم تباين ظروف حياتنا ومراحلها؟
ذلك مفهوم عظيم لو تبنيناه بنوايا بيادر أوراق خضراء صافية، وعقدنا أيدينا بأيدي الصالحين، وابتعدنا عن خراب المفسدين، ونشرنا أعمال الخير، وتقاسمنا مشاعر البناء، الذي يعلي ولا يهدم، ولا يقتل، ولا يحتال، ولا يقلب الحقائق.
وحتى وإن تهافتنا أوراق خريف، فما العيب في أن نرحل معية الرياح بهدوء الواثق من صيرورته، ففرصتنا لا يمكن أن تفوت بمجرد النقص والرحيل، ولكنها تفوت وتنعدم حينما نخرج عن طبيعة إنسان الخير للغير بطلب الخلود.