د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
من البيان بمألوفِ الأعراف ومعهود العادات ضربٌ يكون الجامع بين طرفي التشبيه فيه (غَرضٌ عَرَضيٌّ)، أي غرضٌ لا يحصّلُهُ العقلُ باجتهادٍ وتدرِكُهُ الروِّيَّةُ بتأمُّلٍ، وهذا الغرضُ العَرَضيُّ يشبِه (البديهيَّاتِ في الفطرِ)، وربَّمَا كان منها.
وحقيقة هذا الأمرِ أنَّ عبد القاهر الجرجاني ذكر قول الشاعر:
نعمةٌ كالشمسِ لمَّا طلعتْ
بثَّتِ الإشراقَ في كُلِّ بلدْ
وأشار إلى أنَّ التشبيه بالشمس يأتي لغرضينِ أحدهما (غرضٌ بالخصوص)، والآخر (غرضٌ بالعَرَضِ)، أمَّا الغرضُ بالخصوصِ فإنَّ التشبيهَ بالشمسِ يأتي (للدّلالةِ على العموم)، وهو الذي يقصده بقوله: «الغرض الخاصّ»، أي إنَّ التشبيه بالشمس يلحظُ فيه (العقلُ) اتساع دائرتها حتى إنَّ انتشارها لا يساميهِ شيءٌ، فكان هذا الاتساع والانتشار أخصَّ بالشمس من غيرها عند ملاحظة حالات السرور ومقاصد الرفعةِ والشرف.
والغرضُ الآخرُ الذي هو غرضٌ عَرَضِيٌّ في (التشبيه بالشمس) أنَّ كلَّ أحدٍ يقعُ في نفسه أنَّ طلوع الشمسِ إشراقٌ والإشراقُ إيذانٌ (بإيناسِ القلوبِ)، و(إلباسِ العالمِ لباسَ البهجَةِ والبهاء)، فأشار إلى هذا الغرض العَرَضيّ عبد القاهر لما فيه من تحقق (مألوف الأعرافِ ومعهودِ العاداتِ) بين الناس، وأنَّ الشمس مؤذنٌ طلوعها بالأُنسِ والبهجَةِ واضطرابِ الحركةِ وعلوِّ كعبِ البهاء.
والمهم في ذلك أنْ نسألَ السؤالَ التالي:
لماذا ذكر عبد القاهر الجرجاني الغرض الخاصّ والغرض العرضيَّ في التشبيهِ بالشمس؟
والجواب من كلامه الذي يقول فيه: «… فكان الشبه الآخرُ من كونها مؤنِسَةً للقلوبِ، ومُلبِسَةً العالمَ البَهْجَةَ والبَهاءَ كما تفعلُ الشمسُ حاصلًا على سبيل العَرَضِ، وبضربٍ من التَّطفُّلِ؛ فإنَّ تجريدَ التشبيهِ لهذا الوجهِ الذي هو الآنَ تابِعٌ، وجعلَهُ أصلًا ومقصودًا على الانفرادِ مألوفٌ معروفٌ، كقولنا: نعمتُكَ شمسٌ طالعةٌ».
إذن، يريدُ عبد القاهرِ أنْ يبيّنَ للمتتبعِ أنَّ التشبيه ينطوي على أغراضٍ خاصةٍ، وأغراضٍ تابعة، وأنَّ الأغراضَ الخاصَّةَ أمرها خفيٌّ حتى يجلِّيها العقلُ، ويحصُل من إخراجها أسٌّ بلاغيٌّ هو (مخالفةُ كلامِ العامَّة)، وأنَّ الأغراضَ العرضيَّةَ أمرها جليٌّ يستطيعُ كلُّ أحدٍ أنْ يعرفها حين يرصدُ ما يقعُ في نفسه مما لا يخالفه أحدٌ فيه من الوجدانات المستقرَّةِ في النفوس، وأنَّ هذه الأغراض العرَضيَّة المشعور بها في النفوس تابعةٌ للأغراضِ الخاصَّةِ المستنبطةِ بالعقل.
وبذلك يظهرُ أنَّ ما يقعُ في النفوس وإنْ حلى، ليس كالذي يُحصَّلُ بالحِجَى، وأنَّ معقدَ البلاغةِ وقطبها، ودائرتها التي تتسعُ بها وتتمطَّى هو العقلُ وما يخلُصُ إليه، وأنَّ ما لم يكن طريقُ الوصول إليه العقلُ هو تابعٌ له، وغرضٌ ثانٍ بعده.
وبعد هذا يمكن أن نتساءل عن التصرُّفِ الذي ينطقُ به بعضُ البُلَغاءِ فيجعلون (الغرضَ العَرَضيَّ) أصلًا مقصودًا على الانفراد، كقول: (نعمتكَ شمسٌ طالعة) وما شابهها من الأقاويل؟
ولعل السرَّ في ذلك أنَّ تحويل الغرضِ العَرَضيِّ إلى أصلٍ مقصودٍ على الانفرادٍ مشروطٌ بأنْ يكونَ الشيءُ معروفًا بالغَرَضِ العَرَضيِّ، مألوفًا للنفوس، لا تنقبِضُ عند مواجهتها به، بل تُسلِّمُ ولا تجدُ في ذلك تكليفًا لها ضدّ ما طُبِعَتْ عليه.
ويعرِضُ حين تشبيه الشيءِ بالشمسِ أنَّ في ذلك إيناسًا وبهجةً وبهاءً، وأنَّهُ إذا قُصِدَ على الانفرادِ ليكون أصلًا في (الشمسِ) فرعًا في (المُشبَّهِ) صحَّ ذلك؛ لأنَّ (إيناس القلوبِ) و(انتشارَ البهجةِ) أمرانِ طُبعتْ النفوسُ على معرفتها في (الشمس)، وألفتْ كلُّ نفسٍ ذلكَ فيها، وهو شيءٌ لا يُنْكَرُ لظهوره، ولقوَّةِ الشعورِ به، فصارَ معهودًا بين الناس، عامًّا فيهم، لا يُخالِفُ فيه أحد، ولا يُتطَلَّبُ لإثباتِه دليل، ويكفي فيه أنْ تعود لما فيك من شعورٍ فتسأله، وستجد إجابته بين جنبيك.
ومن هنا صار لزامًا على من قصد الأغراض العَرَضيَّةَ ليجعلها أصلًا في المشبه به الذي له غَرَضٌ خاصٌّ طريق تحصيله العقل أنْ ينتبه لمعهودِ العادات ومألوفِ الأعرافِ فيضعهُ موضعًا حسنًا؛ لأنّه إنْ لم يحسن وضعه لا يكفيه أنْ يكون التحويل لقصد الغرض العَرَضيِّ؛ إذ إنَّ بعض الأغراضِ العَرضيَّة التي تأتي عن طريق تحصيلِ العلمِ بها النفس يأبى أنْ يعطي الزِّمَام، كالذي يحصلُ حين استعمال كلمة (الليل)؛ إذ إنَّك لا يحسُنُ أنْ تقول: (أنت في حال السُّخطِ ليلٌ)، والسبب في ذلك أنَّك أردتَ أنْ تجعل (الغرضَ العَرَضيَّ) أصلًا في تشبيهك، وهو في (مألوفِ الأعرافِ ومعهودِ العادات) مخصوصٌ في النفوس للذَّمِّ وتجهُّمِ الوجهِ وما يُكرَه، وأنت حينذاك تكون (متطلِّبًا في الماء جذوةَ نارِ)، وعند الناسِ مكلِّفًا للنفوسِ ضدَّ طباعها.
وقد يسألُ سائلٌ عن بيت (فإنّك كالليل الذي هو مدركي) الذي فيه تشبيهُ الملِك بالليل، هل هذا من تكليف النفوسِ ضدَّ طباعها؟ والجواب هو لا، ليس قول النابغة مما يتحدَّثُ عنه عبد القاهر الجرجانيِّ؛ لأنَّ الغرض في التشبيه هنا غرضٌ خاصٌّ طريق تحصيله العقل؛ وهو يومئ به إلى (الإدراك) و(عدم الفوات) و(سلطان القهر) و(عبوديَّة الرهبة)، وهذه أمورٌ يدركها (العقلُ) في (الليل) وهي الغرضُ الخاصُّ منه، ويتبعها هنا الغرض العَرضيُّ من الرُّعب والخوفِ والوجل مما طريقُ العلمِ به ما تشعرُ به النفوس وتعهده في عاداتها، وتألفهُ مما استقرَّ لديها في أعرافها وفطرها.
ويتراءى بعد هذا كلِّهِ أنَّ البلاغةَ عند عبد القاهر الجرجانيِّ تحصيلٌ عقليٌّ أصالةً، وشعورٌ نفسيٌّ عَرَضًا، وأنَّ التتبع لكلام البلغاء لا يكفي فيه الشعورُ النفسيُّ إنْ لم يحكم العقلُ خفيَّ أسراره وأسبابه.
ويظهرُ أنَّ من طرق العلم عند عبد القاهر طريقان أولهما العقل وهو الأعلى، ودونه النفس وإنْ كان الأحلى؛ لأنَّ العلمَ حقائق محددة، لا مشاعرُ مبدَّدة.
ويبرزُ لك أنَّ التجديدَ في التشبيهِ ممكنٌ إذا التزم المتكلِّمُ طريقَ العقلِ فوقع على ما لا يدفع، أو التمسُّك بمعهود العادات ومألوف الأعرافِ عندما يخشى أنْ يزلَّ ويخطئ، وكلُّ ما طريقه النفسُ لابد فيه من مصانعة؛ لأنّك مُتَابِع، وكلُّ ما طريقه العقل لابد فيه من مقارَعة؛ لأنّك مُشَاجِع.