د. محمد عبدالله الخازم
العلوم الإنسانية والاجتماعية تشمل طيفاً واسعاً من المجالات؛ الآداب، اللغة، الدين، الفلسفة، الأنثروبولوجيا، النفس، الاجتماع، إلخ. تكمن أهميتها في فهم السلوك البشري والثقافة والتاريخ والمجتمع، وتتعامل مع جوانب شائكة من المعتقدات والظواهر الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وما يتضمنه كل ذلك من معضلات بالذات في تعاملها وتقاطعها مع القضايا الكبرى مثل العرق والجنس والسلطة والهجرة والانحراف والمثاقفة والدين وغيرها.
تبدأ الصعوبة في وصف للظواهر وتمتد للبحث في أخلاقيات التعامل معها واقتراح الحلول وآليات التعامل المناسبة لها وفق بيئاتها. ولا نغفل أنها تحوي مجالات تتداخل فيما بينها ومع علوم أخرى، بشكل يثري ويثير الفكر والمخيلة أحياناً ويصعب الأمر أحياناً أخرى، وفق القدرات الثقافية والفكرية لمن يتعامل معها إنتاجاً واستخداماً.
تزداد معاناة العلوم الإنسانية في مجتمعات تفتقد أو يتواضع لديها الإرث والمناخ العلمي في سبر الظواهر الإنسانية والثقافية والفكرية، وفي تكييف المعطيات والنظريات والفرضيات بما يتواءم مع البيئة / البيئات التي يتم البحث في فضائها. هذا الأمر يقود لاعتقاد البعض - بالذات من خارجها كالمتخصصين في العلوم الطبيعية - بأنها مجالات يصعب قياس معطياتها ومخرجاتها بشكل موضوعي ودقيق. بل ويشكل معاناتها الكبرى في وجوديتها وهويتها على المستوى العام والفرعي.
إذا ما أخذنا تحولات التعليم الجامعي وفق (Martin Trow»s) وانتقاله من تعليم نخبوي إلى تعليم جماهيري (للجميع وليس النخبة فقط) فكوني أو عولمي لمختلف الطبقات الاجتماعية وعبر الحدود، فإنه يمكن القول إن العلوم الإنسانية تدفع ثمن تلك التحولات وتزداد معاناتها مع المرحلة الراهنة الضاغطة على الجامعات لتكون منتجة إقتصادياً وتحقق متطلبات السوق أو التوظيف أو ما يسميه البعض موجة تمهين/ تمهير (من المهنة/ المهارات) التعليم الجامعي. صاحب ذلك، التوجهات العالمية نحو العلم المعتمد على البراهين الموضوعية ومرجعيتها الأساس مقاييس العلوم الطبيعية الرقمية وليس الإنسانية القابلة للشك وتعدد التأويلات. كل ذلك يضيق الخناق على الفكر الفلسفي والأيديولوجي والأنثروبولوجي، وبقية فروع العلوم الإنسانية. وكجملة معترضة هنا؛ أتساءل أحيانأً مع طغيان العلم التجريبي والتطبيقي، لماذا لا زلنا نستخدم مصطلح دكتوراه الفلسفة في الجامعات لوصف الدرجة العليا، رغم أن الفلسفة في كثير من العلوم فيها أصبحت مجرد خيط صغير نحبذ استخدامه للحفاظ على (برستيج) اللقب الأكاديمي؟!
على العموم، الاسترسال في وصف طبيعة وصعوبات العلوم الإنسانية وأزماتها الوجودية وهويتها أمر يطول، لكن أود التركيز - بصفتي مهتماً بالسياسات التعليمية - على أزمتها الأكاديمية التنظيمية في الجامعات السعودية. أتجاوز هنا قضايا الفصل بين مكونات العلوم الإنسانية ووضع كل منها داخل إطار تخصصي يعزله عن الآخر، وتلك المتعلقة بتوافر الموارد والدعم والتطورات التقنية والاقتصادية وغيرها من تفاصيل تنفيذية مهمة تشغل العاملين فيها.
أطرح أسئلتي الممهدة للنموذج الذي أقترحه؛ لماذا نحتاج إلى تعليم العلوم الإنسانية في الجامعات؟ ما هو دور العلوم الإنسانية في المجتمع بصفة عامة وفي التعليم الجامعي وحياة الشباب بصفة خاصة؟ كيف نطور عمليات تعليم وتعلم (بيداغوجيا) العلوم الإنسانية؟ كيف يقتنع المشرع بأهميتها في ظل النظرة (البراغماتية) السائدة التي يعبر عنها «كل مخرج جامعي يجب أن يوائم سوق العمل عبر توظيف خريجية»؟
النموذج الذي أطالب به - وهو يتشكل بشكل أوضح في جامعات كندا والولايات المتحدة - يرتكز على فهم وتصنيف هوية تخصصات العلوم الإنسانية؛ هل هي تخصصات مهنية أم معرفية؟ المقصود بالمهنية تلك التي تقود إلى مهنة، فالقانون مهنة والطب مهنة والتدريس مهنة والإعلام مهنة والعلوم الطبية مهنة، وعلم النفس السريري مهنة وعلم النفس التربوي مهنة، إلى آخره من المهن التي يمكن تبسيط فهمها في كونها تمارس تطبيقياً ولها كيانات مهنية تحدد معاييرها وأطر ادائها.
في الجانب الآخر، تأتي اللغة وعلم النفس العام والاجتماع والتواصل والأدب والأنثروبولوجيا والفلسفة والشريعة وغيرها، كمجالات معرفية عابرة للتخصصات لكنها لا تقود إلى عمل مهني محدد وفق تعريف المهن. ذات الفكرة تطبق على العلوم الأساسية (كيمياء، فيزياء، احياء، إلخ) التي نستحضرها للمقارنة دون التركيز عليها، حيث موضوعنا هو العلوم الإنسانية. بدلاً من استيعاب المستويات التعريفية هذه، نجد منسوبي العلوم الإنسانية ينجرفون إلى محاولة إقناعنا بأهمية مخرجات العلوم الإنسانية كتخصصات مهنية يمارس خريجوها وظائف تناسب تخصصاتهم، وهم بذلك غالباً ما يخسرون النقاش والرهان في هذا الجانب، حتى وإن تم إضافة بعض المواد المساعدة الإدارية أو التقنية.
النموذج الذي أطالب بتبنيه [الخازم، محمد: «جامعة 2030». الدار العربية للعلوم ناشرون، 2018م] يكمن في فهم طبيعة العلوم الأساسية (كيمياء، فيزياء، رياضيات، أحياء، إلخ) والعلوم الإنسانية (لغات، علم نفس، أداب، فلسفة، دين، اجتماع، إلخ) واعتبارهم تخصصات معرفية يجب ألا نشغل ذاتنا بكونها تقود إلى وظائف أو تحقق متطلبات سوق العمل. هي تخصصات تكمن أهميتها في أولاً، التأسيس المعرفي السابق / ذو العلاقة بتعلم المهن؛ ثانياً، بناء الشخصية الفكرية والعلمية والثقافية للإنسان وهذا أحد أهم أدوار الجامعات وما يميزها عن التعليم التقني كونها تعمل على بناء الإنسان وتنمية مداركه وتأسيس قدراته الفكرية والفلسفية في الحياة والفضاء المحيط بصفة عامة وما له علاقة بمساره التخصصي وليس فقط تعليمه تشغيل الآلة، كما هي الدراسة التقنية.
علينا أن ندرك أن تخريج رجل قانون متمكن لا يكفي فيه أن يحفظ القوانين وإنما التمكن اللغوي والفهم الإنساني والاجتماعي والثقافي ودون قدرات تتعلق بالتفكير الناقد الذي تعمل ضمنه تلك القوانين. وبأن تخريج إعلامي لا يستوعب القضايا الكبرى هو مجرد تخريج ناقلٍ للحدث غير مدرك لأبعاده المختلفة وهكذا يمكن القياس في مختلف المهن. تعليم مهنة بدون استيعاب للقيم وتداخلاتها يعني تخريج أناس أحاديي التفكير ومجرد مشغلين، وهذا أحد مساوئ النظرة المبالغة في فكرة «كل مخرج جامعي يجب أن يقود إلى وظيفة» وفق فلسفة «مواءمة المخرجات مع سوق العمل» والاهتمام بالمهارات».
الأمر ذاته، ينطبق على العلوم، فتعليم المهنة لا يقود بذاته إلى تطوير الابتكار والاختراع والتطوير العلمي ما لم يتكئ على خلفية علمية أساسية يتم تعلمها في الغالب، عبر دراسة قوية في العلوم الأساسية قبل الدراسة المهنية أو التخصصية، وابرز مثال يمكن تطبيقه في هذا الشأن هو تقوية العلوم الأساسية والتمكن منها قبل دراسة الطب والعلوم الصحية.. على سبيل المثال، جل الاختراعات الطبية تتكئ على العلوم الأساسية وليس علوم الطب.
أنا هنا أدعو إلى إعادة فلسفة وتنظيم التعليم الجامعي، ليشمل التعليم الجامعي العام (المعرفي) والتعليم الجامعي المهني، ومراعاة عدم الانتقال للمهني قبل إنهاء العام أو الجزء الأكبر من العام. على سبيل المثال، أرجو ألا نقبل خريجي الثانوية مباشرة إلى كلية الطب أو العلوم الطبية أو التدريس أو علم النفس السريري أو الإعلام أو القانون أو طب الأسنان، إلخ. بل نقبلهم بعد إنهائهم برامج جامعية عامة إما علوم إنسانية (بغض النظر عن التسميات) أو علوم أساسية، حسب المسار المهني. يكفي ثلاث سنوات (على سبيل المثال) لتخريج متخصص في علم النفس، كتخصص عام لا يخوله للممارسة المهنية والحصول على الرخصة المهنية في المجال التربوي أو الصحي أو الصناعي ما لم يتخصص لاحقاً في أحدها. من أراد دراسة مهنة محددة، فليلتحق ببرنامج تخصصي / مهني بعد الدرجة الجامعية العامة، سواء كدرجة علمية ثانية أو درجة عليا أو امتداد مهني لذات الدرجة وفق محددات وشروط لهذا الأمر.
تنظيم مسارات التعليم الجامعي بتأجيل تعليم المهن إلى ما بعد التأسيس المعرفي / العلمي سيكون من أهم فوائده اختيار الطالب والطلبة للتخصص بعد مرحلة نضج ووفق معايير مناسبة تتجاوز مرحلة الثانوية العامة المعرفية والعمرية، وبالتالي تقليص التعثر والانسحاب وتغيير التخصصات وتخريج مهنيين لا يحبون مهنهم، إلخ. الأمر مهم، كذلك، في تخطيط تأسيس وتطوير القوى العاملة في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان. ولا ننسى أثر كل ذلك في تحسين الجدوى الاقتصادية والإدارية والأكاديمية في مختلف مستويات التعليم الجامعي وعلى المستوى التنموي بصفة عامة، مما يطول شرحه ونتجاوز تفصيله.
ليس بالضرورة أن يعمل خريج العلوم أو العلوم الإنسانية في مهنة محددة، فنحن نزودهم بالمعرفة العامة ونساعدهم في بناء شخصياتهم وفهم العالم وفهم العلوم وليكونوا مواطنين ويمكن العمل في مجالات لا تتطلب التخصص المهني. هذا بحد ذاته أمر مهم يجب ألا تعتبره الجامعة عيباً أو قصوراً لديها.
التعليم الجامعي العام، يجب أن يتاح لأكبر عدد ممكن من الشباب والشابات، أما المهني فهو ما يمكن تقنين أعداده وفق المتطلبات التي تحكم كل مهنة. أو بمعنى آخر، التعليم الجامعي العام حق للجميع، بينما التعليم الجامعي المهني يكون وفق شروط وأعداد مقننة حسب التخصص.