حامد أحمد الشريف
عادة ما أستغرق وقتا طويلا في قراءة وتحليل أي رواية أنشغل بها، ولا يقصر مدة هذا الاشتغال إلا أزف وقت تناولها، فليس ثمة ما يدفعني للاستعجال؛ طالما كان الهدفُ منحَ النص الوقت الذي يحتاجه، للتعبير عن مكنونات جماله والإفصاح عن كنوزه الخفية، لذلك لم يكن واردًا بالمطلق أن يكون لي كلمة تقال في الأمسية التي قررت حضورها، وقد خُصصت لقراءة رواية أغصان المنازل للأستاذ الدكتورة منى الغامدي، وإنما أردت فقط الاستماعَ للدراسات النقدية التي ستقدَّم، والاستفادة منها، وبدافع الفضول خطر لي تصفحُ العمل، للتواصل وإن بحده الأدنى، مع ما سيقال خلال هذه الأمسية، وفي رحلة التصفح تلك وجدتُني ألتهم عشرين صفحة في ظرف دقائق معدودة، ولم أستطع وضع الكتاب من يدي إلا بعد أن غلبني النعاس، لتبدأ رحلتي معها وقت إشراقة شمس اليوم التالي، فعدت بشغف كبير لاستكمال القراءة، وقد استهواني المكان بكل تفصيلاته الثرية، وكذلك غرقت حتى الثمالة في الشخصية الراوية، التي أجادت في تنقلاتها النفسية والسلوكية والفلسفية، واستهوتني أيضًا اللغةُ الأدبيةُ الباذخة، التي كُتب بها العمل بخبريتها الإبداعية وسرديتها الخطية «الكرنولوجية» اللافتة وشاعريتها المستفزة للمشاعر، كما استوقفتني الطريقة الممتعة في إدارة الصراع، بين زمن الحكي الحاضر والزمن الاسترجاعي الماضي، والغوص في كليهما بطريقة فنية غاية في الجمال والإتقان.
وكل ذلك يقينًا قادني لعدم الالتفات للحكاية، والانكباب على القراءة فقط، ولم يكن أمامي وقتها غير تلك العبارة الجزلة التي أظهرت لي قيمة هذا العمل الفنية، تلك العبارة التي استوقفتني كثيرًا ودفعتني للتأمل والارتباط الكبير بالنص، كان ذلك بالطبع ص 17 في قول الساردة وهي تصف حالة الراوية المتكلمة عندما وجدت أمها الفقيرة بملابسها الرثة تحضر تكريمها في المدرسة بشكل مفاجئ، فتغيب فرحتها بهذا التكريم، وتحاول الاختباءَ حتى لا يُعرف أن هذه السيدة هي والدتها، تقول الساردة: «وكانت تلك السعادة التي استقرت بعينيها قد فرت من ملامحي أنا». هذه الثنائية الرائعة أظهرت لي قيمة هذا العمل من الناحية الأدبية، وبرهنت أن اللغة الأدبية تستطيع النهوض بالعمل، مهما كانت مواصفاته، وأنني أمام عمل ينبغي التوقفُ عنده، والحديثُ عنه، وقد كان، فالصفحات التالية لم تخذلني مطلقًا، ولم تكن تلك العبارة طفرة إبداعية كما يحدث عادة، فالنظم بقي ينثر الجمال، وأصبحت السردية معنية بهذه القيمة الجمالية الأدبية، حتى إنني لم أعد ألتفت للحكاية نفسِها ولم أعد أهتم بغير الاندفاع أكثر في هذه الحديقة الغناء، مستمتعًا بالجمال، كما يحدث عادة عندما يكون الجمال هو بغيتَـك من المكان ولا تحفل بغيره.
وقبل الخوض في الحديث عن السردية لا أستطيع تجاوزَ العبارات الاستهلالية، التي سبقت الفصول، فقد كانت منتقاةً بعناية فائقة، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسرد واستخدمت كسيميائيات أو مفاتيح تقود للمعاني المستهدفة، خلاف أنها هدية الكاتب لقارئه النخبوي، وابتدت هذه الحكاية مع تشيخوف في عبارته الجميلة التي لخصت لنا كامل السردية في قوله: «قد لا أملك انتصارات مدهشة، لكني أستطيع إدهاشك بهزائم خرجت منها حيًا» فهذه العبارة تعظم قيمتها بعد وصولك للنهاية عندما تتأكد أنها عبرت بصدق عن كامل السردية، فالبطلة المتكلمة أدهشتنا بالفعل، بخروجها سليمة من تلك الانكسارات، التي رافقتها طوال السردية، وكادت تقضي عليها في كل مفصل من مفاصلها ، حتى إننا لندهش من نجاتها واستكمالها للحكاية، ولعل هذا يعد نجاحًا وإبهارًا للسردية بأن تكون عباراتها الاستهلالية بهذه القوة والجزالة والقدرة على اختزال كامل الحكاية، وليس الفصل الذي تسبقه، وبالطبع لا يتعلق هذا الأمر بهذه العباراة وحدها، بل إن كل العبارات التي وُضعت تحمل هذه الصفات الإبداعية، مثل إيرادها مقولة عظيمة للكاتب الروسي ديستوفيسكي يقول فيها: «إن المرء ليشعر بالطمأنينة والراحة في المكان الذي ألِفَ العيش بين أركانه، مهما لقي فيه من التعاسة والشقاء»، وهنا أيضًا نجد التطابق بين قرارات بطلةِ العمل السردي ومدلولات وفلسفة هذه العبارة الجزلة، فالبطلة كانت بالفعل تعيش الطمأنينة في المكان الذي ألفت العيش فيه، رغم التعاسة والشقاء اللذينِ جلبهما لها، وكانت عودتها من مكة لمنزلها القديم أكبر شاهد على ذلك رغم إنها خلال رحلتها الطويلة مع أغصان المنازل، لم يكن المنزل بالصورة التي تقربها منه؛ أو تدفعها لمحبته، فكان تعلقها فطريًا يرتبط بحضور المكان في حياة الإنسان؛ وقدرته على ربطها به رغم الألم.
ويقينًا فإن كل العبارات الاستهلالية اكتست بنفس القيمة وسأكتفي بإيراد عبارات كانت أُولاها مع فولتير وسأترك لكم قراءتها بطريقتكم يقول فولتير ص39: «الوهم يحتل صدارة كل المتع وأشكال السعادة» وتأتي بعدها مقولة المنفلوطي ص55: «الآن عرفت أن الوجوه مرايا النفوس، تضيء بضيائها وتظلم بظلامها»، وآخرها عبارة للمؤلفةِ نفسِها ص71 تقول فيها: «الاختلاف لا يفسد الود إلا حين يصل إلى طردك من الجمهورية الفاضلة»، وبعدُ فلك أن تتخيلَ قيمةَ هذه العبارات العظيمة وارتباطَها المحوري بالسرد وتوظيفتها الدلالية، وحسن انتقائها وتسلسلها المنطقي، ولولا ضيق المساحة لوقفتُ متحدثًا عن كل هذه الدوال اللفظية، فهي تستحق التوقف وبيان قيمتها وعلاقتها بالمتن الحكائي، لكنني مضطرًا سأتوقف، فالجمال ليس حكرًا عليها، فهناك محطات أخرى تستحق الوقوف أمامها والحديث عنها.
ورواية أغصان المنازل الصادرة ضمن مشروع «100 كتاب» الذي تقوم عليه دار أدب للنشر والتوزيع بدعم من الصندوق الثقافي السعودي تقع في 138 صفحة من القطع المتوسط، تأتي في هيئة سيرية لفتاة تشكلت داخل عدد ثلاثة عشر منزلًا، كانت شاهدًا على فصول حياتها المليئة بالانكسارات، وتناثرت هذه المنازل في ثلاث مدن متفرقة، من المملكة العربية السعودية هي جدة ومكة المكرمة والباحة، فكان المكان هو البطل الحقيقي، الذي أظهر لنا هذه السردية واستطاع إنضاج تلك البنت الصاخبة التي قضت طفولة رائعة بين صديقاتها في المدرسة لم تخلُ من تجاوزات بريئة أظهرت تعلقها بالحياة، لولا أن هذه الحياة عبست في وجهها وأطلعتها على الوجه الآخر، الذي قادنا لهذه السردية التي يعتقد كل من يقرأها أنها سيرة ذاتية مكتملة الأركان، وربما كان تقديم الدكتور صالح معيض الغامدي لها، وكذلك تناولها من قبل الدكتورة عائشة الحكمي، وهما المعنيان بأدب السيرة مما يضعها قسرًا ضمن هذا الإطار ولكن ذلك لا يعيبها، ولا يخرجها من دائرة السرد التخيلي؛ طالما أن الكاتبة استطاعت باقتدار الاختباء، وترك البطلة الافتراضية تتولى زمام الحكي، وتُغيب الكاتبة، وفي ظني لا يحق لنا كقراء إدراجها ضمن أدب السيرة، طالما بُوِّبَتْ تحت الرواية، ونجحت المؤلفة في سردها التخييلي، مستحضرة كل عوامل النجاح السردي التخيلي من مكان وزمان وشخوص وصراعات، ولا أظن أن واقعية الأحداث وقربها من المؤلفة قادرةٌ على إدراجها ضمن السيرة، وكذلك لا يمكن ربط المؤلف بالأمكنة واعتبار المكان دليلًا على سيرية السرد، كذلك ليس من حقنا اعتبار ضمير المتكلم دليلَ إدانة سيرية، فَجُل الروائيين العالميين يكتبون عن حواريهم التي عاشوا فيها، أي إنهم لا يكتفون بالمدن، بل يخصصون المكان ويحصرونه في أحيائهم وأزقتهم ويستحضرون شخصيات تكاد تتطابق معهم، ويتحدث كثير منهم بضمير المتكلم، ومع ذلك لم يأتِ من يتألَّى عليهم، ويغير تبويب أعمالهم السردية، وغاية ما هنالك أننا قد نسقط أمام ضعف السردية، وعدم قدرة المؤلف على إنجاح مرويته، وتخليصها من سيرته الذاتية، وبالتالي لا يستطيع النهوض بها من خلال أبعادها المختلفة، الأسلوبية والبنائية والهيكلية، مما قد يدفعنا لعدم الاعتراف بتبويبها الروائي، كما حدث مع رواية العقاد «سارة».
والأكيد أن هذا الأمر لا يكون مطلقًا وإنما يقدر بقدره، والفيصل بيننا هو اكتمال العمل السردي من عدمه، حتى وإن عبر عن حياة المؤلف، فكما هو معلوم أن أغلب الروائيين العالميين بدأوا الكتابة السردية من خلال سرد روايتهم الشخصية، ومع ذلك لم يأتِ من يخرجها من السرد التخييلي، معتمدًا على الضمائر والأفعال وليِّ أعناق النصوص، طالما قرر كاتبها أنها رواية، وكان قادرًا على استكمال متطلبات هذا الجنس الأدبي، حتى وإن وظف حكايته الواقعية في السرد، بدليل أن أعظم الروايات العالمية والعربية كان أساسها واقعيًا، يرتبط بالمؤلف، مثل رواية «حارس في حقل الشوفان» للأمريكي «جيروم ديفيد سالينجر»، وكذلك على المستوى العربي «موسم الهجرة للشمال» للطيب صالح، فكلا هذين العملين لو استحضرنا الحياة الشخصية لكاتِبَـيْهما؛ لأدرجناهما ضمن أدب السيرة بدون أي تردد، فهل يحق لنا ذلك، بالطبع لا، ويعد ذلك من التنطع التصنيفي للأعمال الأدبية.
وبرغم قرب حكاية «أغصان المنازل» من أبطالها، واستخدام ضمير المتكلم في سردها، إلا أنها على الجانب الآخر تبهرنا بمحافظتها على كل الركائز السردية الروائية، حتى إنني سأضعها ضمن جنس الرواية، حتى لو قرر صاحبها أنها سيرية، فالفيصل هو اكتمال احتياجات السرد التخييلي وليس التبويب الاختياري، فهناك كثير من الأعمال الفقيرة سرديًا وغنية سيريًا؛ ودرج النقاد على إدراجها ضمن أدب السيرة رغم إنكار مؤلفيها والعكس صحيح، وخلاصة القول فإن مروية المنازل، هي رواية تخييلية بامتياز، حتى لو قررت الكاتبة أنها سيرية، بعد أن أبدعت في استكمال متطلباتها الروائية.
ولعلي مع هذا الالتباس أستعيد بعض النصوص التي قرأتها لإحسان عبدالقدوس، والاستغراب الذي انتابني وقتها من قدرته على أسري بكتابته ولغته الأدبية الباذخة، وبقدرته على السرد بأسلوب بارع ومشوق، أنساني حينها أركان كتابة القصة القصيرة، ولم أعد أحفل بتصنيف قصصه إن كانت واقعية وسيرا ذاتية أو هي حكايات تخييلية، فالجمال عندما يأسرك لا تريد أن تفسر ذلك أو تفهمه، ويصبح من الغباء الانشغال بأي أمر خلاف الاستمتاع به، ذلك ما حدث معي بصدق، وأنا أطالع هذه الرواية، فاللغة الأدبية أخذتني من أبعاد الرواية وقيمتها البنائية والأسلوبية، ولم أعد أهتم إلا بتتبع تلك العبارات المغرقة في الجمال وأدونها دون كلل أو ملل، رغم أنها على الجانب الآخر لم تكن أقل براعة في اللعب على عناصرها الأربعة؛ الزمان والمكان والشخوص والصراع، بل إنها أبدعت أيما إبداع في استحضارها جميعًا، وتفعيلها وصهرها في بوتقة الجمال، التي عجنت بها، لكنها ما كانت لتستوقف القارئ، وتدفعه لتحليلها والاهتمام بها، وقد أشغلته جاذبية اللغة بأسلوبها التشويقي، وإثارتها المنضبطة، ورفعها من مستوى التلقي المباشر لمعانيها وقيمها الفكرية والفلسفية، وإغراقها في استحضار الزمن، بطريقة غاية في الإبداع والتجلي، بحيث لا يمكن للقارئ الفكاك من استحواذها وهيمنتها على مشاعره، وهو ما يمكن ملاحظته من الاستشهادات التالية، حيث نجد النص يتنقل بنا في محطات إبداعية تتنافس فيما بينها، يقول لنا في ص29: «لم أعد أتمكن من تمييز ملامح عالمي الأول، إذ كان شاحبًا وهزيلًا كحلم طاعن في السن، مسكونًا بخليط من ذكريات لا تخصُّني» وفي ص30: «وأحببت الباحة الأمامية التي يطلُّ عليها متضائلا أمام اتساعها الرهيب» وفي ص42: «وتظل عبارات والدي الشهيرة لأمي بعد ذلك عالقةً في مساحة كبيرة من الشجن، فدائمًا ما كان ينهي النقاش بأن َّ المكان ليس أكثر من أبعاد وزوايا قابلة للنسيان، وأن ليس ثمَّة انتماء إلا للوقت الذي تشكله الأحداث لا الأمكنة، والأشخاص لا التضاريس، فالوقت والوقت بأحداثه وشخوصه هو الكفيل بإسعادنا جميعا.» وفي ص43: «أمي كانت تتحامل على نفسها كجبل ٍلا تسقطه كثرة الكهوف التي نخرته، أو الطرق التي نُحتت فيه، وتبتسم بالرغم من كل شيء لتخفي عنا جحيم ما يعترك في صدرها.» وفي ص45: «تنمو الخرافة ويصبح لها جسدٌ بشري ٌّفقط حين نعجز عن الاحتفاظ بها داخل مستودعها الآمن» وفي ص46: «وكم كان اعتقاي بعدها كبيرا بأن الحياة ليست إلا أضغاث أحلام نفيق منها على الموت،» ومرة أخرى في ص46: «اسمي ربما كان هو الأكثر صدقًا من بين الأشياء التي التصقت بي طوال حياتي. كلما حاولت تغييره تشبَّث بي كطفل ليس علي سوى حمله ليكف عن البكاء» وفي ص48: «في الصباحات التي قضيتها بعيدًا عنها في المدرسة استطعت أن أتصالح مع نفسي. مارست وجودي على نحو مماثل لما يحدث للماء حين ينفصل عن وعائه. يظل يتشكل بأي شيء يحتويه. ليس ثمة خطورة في المكان الجديد، فما علينا سوى أن نتأقلم معه فقط. أن نجرب وعاءً جديدًا يحتوينا هكذا بدأت ُ أتسلق أغصان الوقت الشائكة وقلبي يدق ُّ بخوف كبير في كل مرة أخرج فيها إلى مجتمع جديد.» وفي ص93 تستوقفنا قدرة السردية على مثاقفة القارئ بشكل بديع لا يمكننا بحال رفضه مهما كان إيماننا بقوانين السرد وانصياعنا لها.. تقول: «أن نحلم خارج حدود الواقع شيء، وأن نصوغ واقعنا بأنفسنا وكأننا نحلم هو شيءٌ آخر تماما. حتى الحلم الذي تختلط فيه الأمكنة وتتلاشى الحدود والروابط المنطقية بين الأشياء يظل يحاصرنا بواقعيته الشديدة.»
وفي ص 64 تعبر بنا لغتها الباذخة وفصاحتها وقدرتها على توظيف المفردات بدقة متناهية، للإفصاح عن مشاعر النص في تعليقها البديع على حوارها المغرق في الشجن مع والدتها: «كانت تبكي وهي تحكي. كانت تنكأ جرحها اليابس منذ عقود في محاولة لرتق جروحنا الطازجة. هي تحكي لي لأتعظ. وأنا لا أصغي إلا لواقعي الأمرد. أحضرتني إلى هنا لأفهم أي َّ ترف نعيشه الآن، لكني لم أفهم إلا أننا ننحدر إلى أمسهم السحيق».
إن العمل السردي الإبداعي تظهر قيمته في التفاصيل الصغيرة، هذه حقيقة يدركها كل ناقد للأعمال الروائية، وقد ظهر هذا في هذه السردية، فطريقة تقديم الصراعات والأحداث المتوالية كانت دقيقة ومرتبطة بالحدث، واستخدمت كسيميائية تشير إلى معناه، وكمثال يمكننا الوقوف عند هذا الحدث المسرود في ص49: «تُوفِّيت جَدَّتي وأنا في الثامنة من عمري. لم يكن لرحيلها معنى عندي، فأنا لم أعرفها جيدا ولا أتذكر عنها أي شيء إلا أنها طريحة الفراش،»، الجميل في هذه العبارة كتابتها على هذا النحو في بداية فقرة جديدة بدون أي مقدمات، وكان في ذلك إبداع حقيقي في الحديث عن الموت، وكأن الساردة أرادت زرع سيميائية مهمة جدًا بطريقة مضمرة، معتمدة فقط على موقع المفردة وطريقة تقديمها والاكتفاء بالسياق لإظهار معناها العميق جدًا عندما أظهرت أنها لم تكن تمثل شيئًا بالنسبة لها، فقط إن ذكر موتها لابد أن يأتي على هذا النحو.
وفي ص 49 أيضًا يصلنا مغزى عميق كتب بطريقة استفهامية رائعة تخلق عنصر تشويق وإثارة، تدفع القارئ للانكباب أكثر على النص نجدها في قولها: «لم أفهم سرَّ كل ذلك التعنُّت. فقد زارنا وائل أكثر من مرة، وكنا نقضي الكثير من الأوقات في اللعب معا في بيتنا القبيح هذا. لماذا يكتشف فجأة أن ليس ثمَّة طاولة ولا مقاعد؟ لماذا يشعرنا فجأة بأننا ننتمي لطبقة لا تليق به؟ ولماذا من بين كل الأشياء المفقودة في منزلنا لا يتذكر إلا طاولة الطعام. ولكن كل تساؤلاتي تلك أجهضها منظر الجرح الغائر في ركبته، حين أقعدَتْه أمُّهُ على الأرض ناسية جرحه المكشوف، فصرخ من البكاء لاعنًا فقرنا الشديد.» يخبرنا النص هنا بطريقة غير مباشرة أن المواقف غالبًا ما تظهر الصورة الحقيقية المضمرة في عقلنا الباطن؛ التي نخفيها عادة ولا نصرح بها إلا وقت الحاجة، وهذا بالطبع يحدث كثيرًا، فنحن لا نعرف أصدقاءنا وأحبابنا إلا وقت الشدة، مع أنهم كانوا مختلفين تمامًا وقت الرخاء، وكان إبداع النص أنه سردها على لسان طفل صغير كي يمنحها المصداقية التي تستحقها والقوة التي تنشدها.
ومما ميز هذه السردية أيضًا، طريقة سرد الحوارات، وقيمتها الشعورية والإنسانية العالية جدًا، ودلالاتها الفلسفية والفكرية، وإدماجها في الوصف بطريقة رائعة تجعل فصلها مستحيلًا، وكمثال على ذلك نورد هذا الحوار الدائر بين الساردة المتكلمة ووالدتها ص60 تقول فيه: «وحين أمسكَت ْ بيدي وهي تشير إلى بيت جدِّي الذي انتقلَت ْ إليه بعد الزواج، وحجرتها التي تصدعَّت نوافذها الخشبية، أطلقَت ْ تنهيدة طويلة، وأحكمت ْ غطاء رأسها وكأن َّ الموتى يرونها وهي تقف على أطلالهم الغابرة. صعدَت ْ بي درجات السُّلَّم الصخري إلى العُلِّية،حيث كان مهجعها وإخوتي الخمسة الكبار، وقالت: عندما تزوَّجت ُ والدك، لم يكن والده حيًّا، فقد توفي وهو في التَّاسعة تقريبا، وكان هو أكبر أشقائه الأربعة، فكلهم كانوا أيتاما.
و«أنت؟» سألتها وقد أشاحت برأسها عني، وأحالت طرفها إلى آخر حدٍّ فاصل بين الجبل والسماء. أجابت عن سؤالي بسؤال: «أنا؟». كان سؤالها همسًا خرج من قاع الوادي، بعيدًا، ولا يكاد يُسمع.
«كنت يتيمة أيضا. أذكرُ أمي، لكني لا أتذكر شكل والدي إلا غَبَاشًا. فقد كان كثيرا ما يسافر إلى مكَّة، وعندما تُوُفِّيَ كنت في السادسة من عمري. لا أتذكر شيئًا عنه. تُوفِّيت أمي بعده بسنتين».»
وخلاف كل ذلك نجد أن هذه السردية امتازت أيضًا، بوجدانيتها العالية، وقدرتها على ربط القارئ بالنص، وإقحامه في تفاصيله الشعورية، وعدم الاكتفاء بالارتباط المكاني والإنساني، وهي النصوص التي تدفعنا أحياناً للبكاء رغم معرفتنا بخياليتها وعدم واقعيتها، وأكثر من ذلك أنها لا تخصنا حتى وإن كانت مغرقة في الواقعية. تجلى كل ذلك في مشهد الأم وهي تصطحب ابنتها، وتعرفها على الأطلال القديمة لقريتها، التي قاست فيها أشد أنواع العذاب، الذي أشارت إليه السردية في ص43 وأفصحت عن تفاصيله الدقيقة في ص63 ضمن حديث طويل أجتزئُ منه هذه الجزئية، التي تقول فيها واصفة حادثة جمل، كاد يقضي عليها: «وفي إحدى المرات هاج جاسم، فطلب إليَّ عمِّي جُمْعان أن أنزل إليه وأقوم بتهدئته لأنني دائمًا أطعمه. خطر في أذهانهم أنه حالما يراني سيهدأ، ولكنه تقدم نحوي وهو يهدِر ويجأر، ولم أتمكن من الالتفات لأهرب حتى وقعت قائمتاه على ظهري، وكاد يقتلني. لم يجرؤ أحد على النزول إليه أو الاقتراب منه. كانوا يشاهدون المنظر من فوق ومن بعيد، مرضت لشهر كامل، وقد تكسَّرت عظامي. حين تكونين بلا أم حقيقيَّة تحبك، أو أب يحميك، هذا ما سيحدث لك».
إن هذه السردية الممتعة لم تكتفِ بما حققته من امتيازات سردية، يتمناها أي قارئ لعمل روائي، من الإمتاع والتشويق والإثارة، وذكاء النص والاهتمام بمستويات القراءة المتعددة بغوصها كثيرًا في الفلسفات والأفكار المضمرة في النصوص، واستخدام السيميائيات الدلالية للتعرف عليه بعيدًا عن المؤلف، ورغم كل هذا الجمال والإتقان إلا أن هناك ميزة حقيقية شعرت بها في هذه السردية، تتعلق بالزمن السردي والمرور على كل تفصيلاته الدقيقة، وكان حضور هذا الزمن أكثر من رائع زاده رونقًا وجمالًا ربطه بالتحولات الاجتماعية التي عادة ما يشهدها زمن السرد بطريقة غاية في الاتقان والروعة، حتى عُدَّتْ هذه الرواية فضاءً زمانيًا، يخلد حقبة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية، أو لنقل بداية عصر الصحوة في السعودية، بتحولاته الكبيرة وتأثيراته الاجتماعية، والجميل أن هذا الطرح كان واقعيًا، وأكتفى بإشارة بسيطة لإيصال المعاني المستهدفة؛ دون إكثار أو إقلال، تجلى كل ذلك من خلال سرد حكاية شقيق الساردة المتكلمة ماجد الذي جسد في زاوية منه الغربة التي كانت تعيشها الساردة مع محيطها الإنساني، صديقاتها وإخوتها وأهلها ومجتمعها، وكان أيضًا مثالًا حيًا للتحولات الاجتماعية المرتبطة بالدين ولم يخل منها بيت في المملكة، وإن كانت في أغلبها اختلافات ساذجة تعايش معها الجميع كتحريم مشاهدة التلفاز ونحوها، اختزلتها لنا الكاتبة في صفحات 73 و74 و75 و76 حيث انتهت الحكاية بتراجعه عن كل قناعاته، بعد زواجه وتنكره لكل ما كان ينادي به من تشدد، وهو الوصف الصادق لتلك المرحلة التي عاشتها أرض الجزيرة، بانتشار التطرف على كل الأصعدة وكل يريد أن يأخذ الحياة إلى خندقه، وإخفاق الجميع في ذلك، وانتشار التبدلات السلوكية بين كل الأطراف، بشكل بات مضحكًا، ولم يسلم من ذلك أي من أطراف المعادلة، فبتنا نرى الزنديق بين ليلة وضحاها شيخًا فاضلًا وإمامًا للمسلمين، في وقت قد نرى بعض المتزمتين والمتنطعين قد تخلى عن الدين بشكل لا يصدق، وبين هؤلاء ضاع كثير من التابعين من أطفال ونساء لا حول لهم ولا قوة، ولقد صورت لنا السردية كل ذلك من خلال ماجد الذي جسد كل هذه التحولات باختزال شديد، يحسب لهذا العمل الجميل، وكانت قبل ذلك قد أظهرت انعكاس الزمن على حياة البشر، من خلال المنازل الأولى التي شهدت ميلاد هذه السردية، بوصف غاية في الجمال يشعر به كل من عايش تلك الحقبة، كقولها في وصف تعامل اأم مع حوادث انغراس المسامير في أرجل الأطفال الحافية، وطريقة معالجتها، في تصوير دقيق وجميل، للبساطة التي كانت تغلف حياة المجتمع تقول ص35: «فتقوم أمي بضرب الجرح بالحذاء، وكنت أظنه نوعًا جديدًا من العقاب، ولكنها أخبرتني بأن هذه طريقة ناجعة لطرد السم، وتعبئة الجرح الغائر بعد ذلك بالشاي الأسود للمساعدة على تخثر الدم كما تقول.» فكل من عايش تلك الحقبة يعلم جيدًا قيمة هذا الوصف للحياة الاجتماعية المواكبة لذلك الزمن، استطاعت السردية باحترافية عالية استحضارها بإيجاز وتكثيف يحسب، لها وكل ذلك يصب في القيمة التي تمثلها هذه السردية إذا ما نظرنا لها من خلال الزمن.
وخلاصة القول فإن «أغصان المنازل» كانت بالفعل أغصانًا وتفرعات لسيقان وشجرة الحياة، التي زرعتها المؤلفة فأورقت كل هذا الجمال، لتضعنا أمام سردية من طراز رفيع اختزلت لنا عقودًا من الزمن، وأبدعت في عرض المكان بكل تفصيلاته الدقيقة، وأوقفتنا على صراعات غاية في الجمال السردي، ولم تبخل علينا بعرض نماذج مختلفة من البشر، الذين شكلوا الفضاء الإنساني للرواية، وإن كانوا جميعهم يرتبطون بالساردة المتكلمة، لكنهم في واقع الأمر كانوا يشكلون الفسيفساء البشرية؛ التي ميزت تلك الأزمنة، والتبدلات التي طرأت عليهم، مما منح هذه السردية قيمة كبيرة جدًا، ويمكن اعتبارها ذاكرة مكانية وزمانية للحياة الاجتماعية في المملكة العربية السعودية، في بداية الثمانينيات وحتى وقت صدور العمل، والأهم من ذلك كله إظهار أن الناقد الأكاديمي له القدرة على خلع عباءته النقدية وارتداء عباءة الإبداع؛ ليبرهن أن الإحساس بالحكاية هو سر جمال النصوص نلمسها نقدًا وسردًا.