د. عبدالواحد الحميد
لطالما ردَّدْنا المثل السائر: «ليس من رأى كمن سمع».. وقد قرأت وسمعت الكثير عن عنيزة على مدى سنوات العمر منذ أن وقعت يدي ذات يومٍ بعيدٍ جداً على كتاب ملوك العرب لأمين الريحاني الذي قال عن عنيزة إنها «قطب الذوق والأدب، باريس نجد» عندما مرَّ بها في رحلته بالعشرينيات الميلادية من القرن الماضي!
كل زياراتي السابقة لعنيزة كانت سريعة وعابرة، لكنني زرتها مؤخراً مع بعض الزملاء القدامى من مجلس الشورى بدعوة كريمة من سعادة الدكتور عبدالرحمن العبدالله الزامل، زميلنا السابق في مجلس الشورى ورجل الأعمال المعروف، وذلك خلال الفترة من الخميس الموافق 21 نوفمبر 2024 إلى يوم السبت الموافق 23 نوفمبر 2024 .
يصعب تدوين يوميات تلك الزيارة لازدحامها بالكثير من التفاصيل المدهشة الجميلة لكنني سأستعين ببعض التغريدات التي نشرتُها عبر منصة إكس X (تويتر سابقاً)، وتسجيل نبذة سريعة هنا في هذا المقال عن تلك الزيارة لمحافظة عنيزة الرائعة وفي الذهن ما كتبه أمين الريحاني حين وصفها بأنها ملكة الذوق والأدب وباريس نجد، واستطرد قائلاً في كتابه الذي وثَّق فيه تجواله في العديد من مدن وبلدات وقرى الجزيرة العربية والهند والعراق وغيرها: «هي أجمل من باريس إذا أشرفت عليها من الصفرا لأن ليس في باريس نخيل وليس لباريس منطقة من ذهب النفود، بل هي أجمل من باريس حين إشرافك عليها لأنها صغيرة وديعة خلاَّبة بألوانها، كأنها صورة صوَّرها مَانِه Claude Manet لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، وكأنها لؤلؤة في صحن من الذهب مطوق باللازورد، بل قل إنها السكينة مجسدة وقد بنت لها معبداً بين النخيل، زانته بإفريز من ذهب الرمال».
* * *
بدأنا الزيارة بالسلام على صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم، حيث استقبلنا سموه في مكتبه بالإمارة وسعدنا بتبادل الحديث مع سموه في شتى المواضيع الثقافية والتنموية والوطنية وبخاصة ما تشهده منطقة القصيم من نهضة واسعة. وقد تجلت ثقافة سموه وشفافيته من خلال الطرح الموضوعي المتعمق للعديد من القضايا، وتفضل لاحقاً بإهدائنا بعض مؤلفاته عن الشورى وتاريخ المملكة والتنمية وغير ذلك من الموضوعات الفكرية. ومعروف عن سموه اهتماماته الثقافية والفكرية، ونشاطه في مجال البحث والتأليف. وقد تجولنا في ربوع عنيزة الجميلة، وزرنا سوق المسوكف الشعبي الشهير الذي يعبق برائحة التاريخ وحميمية مجتمع عنيزة، وزرنا بيت البسام التراثي الذي يجسد النمط المعماري المحلي الرائع.
كما زرنا جادة النخيل العامرة بمقاهيها ومطاعمها بين النخيل الشاهقة وهي مبادرة وتجربة تنموية رائعة من الجمعية التعاونية السياحية بعنيزة، حيث أقيم هذا المشروع السياحي التنموي الريادي على عدد من المزارع القديمة بمساحة تربو على 75 ألف متر مربع بعد أن قامت الجمعية بتأهيلها وإتاحة فرصة استثمارها من خلال جهدٍ تعاوني مجتمعي شارك فيه أصحاب وورثة تلك المزارع وبعض المستثمرين الآخرين تحت مظلة الجمعية فأقيمت منتزهات ومقاه ومحلات للمأكولات ومساحات للنشاط الترويحي في بيئة خلابة ساحرة. كما زرنا حائط حركان، وهو مزرعة قديمة تم تأهيلها وتحويلها إلى مكان جميل يعج بمحلات المأكولات الشعبية والمقاهي والمتنزهات ومنتجات الأسر المنتجة والمنتجات الحِرَفية وتُقام فيها فعاليات متنوعة. وفي مساء اليوم الأول حضرنا حفلاً لسامري عنيزة في دار عنيزة للتراث الشعبي، حيث أبدع المشاركون في أداء وصلات من السامري في الدار المعدة لهذا الغرض. وكانت أمسية جميلة استمتعنا خلالها بهذا التراث العريق الذي اشتهرت به محافظة عنيزة.
وفي اليوم الثاني زرنا المشروع الرائد الذي أقامه الأستاذ فهد العوهلي وهو مزرعة للأسماك تسهم في تزويد الأسواق بالأسماك وببعض المنتجات الزراعية، وقد تم توفير تقنيات حديثة أسهمت في خفض التكاليف وزيادة الإنتاجية. وفي مجلس الأستاذ العوهلي، كان لنا لقاء مع سعادة محافظ عنيزة الأستاذ سعد السليم الذي رحب بالجميع وتحدث عن العديد من القضايا التنموية. كما زرنا مخيم البلدية، وهو مخيم تتوفر فيه بيئة للنزهة الصحراوية الجميلة واستمعنا إلى حديث من المؤرِّخ الدكتور أحمد البسام عن تاريخ محافظة عنيزة.
وفي آخر أيام الرحلة زرنا مدينة جمعية عنيزة للتنمية والخدمات الإنسانية (تأهيل) التي يعجز القلم في هذا الحيِّز الضيِّق عن وصف ما تعج به من أنشطة إنسانية تمثِّل روعة المبادرات التطوعية من رجال الأعمال والمجتمع من أهل عنيزة والتقينا بنائب رئيس مجلس الإدارة المهندس مساعد السليم وأمين عام الجمعية الأستاذ فهد الوهيبي اللذين قدما لنا معلومات قيمة عن الخدمات التي توفرها المدينة، وتجولنا في مرافق المدينة التي تتضمن مجمع علي الجفالي للرعاية والتأهيل ومركز علي التميمي للتوحّد ومركز محمد السعدي للطفولة والتدخل المبكر ومركز الخنينية للتمكين الوظيفي والاجتماعي ومركز عثمان الخويطر لمتلازمة داون ومركز عثمان الخويطر لأبحاث الإعاقة وبعض المرافق الأخرى فضلاً عن مرافق ما زالت قيد الإنشاء. وتقدم المدينة خدمات للأشخاص ذوي الإعاقة من الذكور والإناث بجميع فئاتهم بما في ذلك التعليم والتأهيل والتدريب والتوظيف وتقع على مساحة تزيد عن 400 ألف متر مربع.
كما زرنا مركز القصيم العلمي والتقينا المشرف العام على المركز وأمين مجلس الأمناء الأستاذ أحمد الشبل الذي شرح لنا أهداف المركز المتمثّلة بتحسين وتطوير البيئة التعليمية وأساليب التعليم والتعلم إسهاماً في تكوين رأسمال بشري وطني قادر على المنافسة عالمياً. وقد أُقيم المركز بمبادرة مجتمعية من أهل عنيزة وبمشاركة وزارة التعليم ودعم مالي كريم من مجموعة الزامل القابضة والهيئة العامة للأوقاف وبعض الجهات الحكومية والخاصة. ويتكون المركز بشكل أساسي من واحة حمد العبدالله الزامل للعلوم وأكاديمية محمد الشبيلي العلمية، ويقع المركز على مساحة 47 ألف متر مربع. وكانت هناك محطات أخرى رائعة في هذه الزيارة يضيق الحيِّز هنا عن سردها وتعجز الذاكرة عن استحضارها سريعاً، وأناس رائعون كُثُر قابلناهم في ربوع المحافظة الجميلة، فلَهُم كل المحبة وخالص الود والتقدير.
إن ما شاهدناه في هذه الزيارة من مشروعات تنموية ومبادرات أهلية وما لمسناه من حراك ثقافي فكري وتلقيناه من كرم استقبال ووفادة يعكس تراث وقيم البيئة الجميلة المتحضرة والناهضة لعنيزة وأهلها الكرام، وهي البيئة الاجتماعية والطبيعية التي بهرت الرحالة العرب والأجانب الذين مروا بالمدينة منذ أقدم العهود وسجلوا انطباعاتهم وإعجابهم بعنيزة وأهلها. وهنا لا بد أن تقفز إلى الذهن إسهامات الرجال والنساء من أهل عنيزة في التنمية الوطنية، ثقافياً واقتصادياً وإدارياً وتعليمياً وفي جميع المجالات، وهي إسهامات تجاوزت الحيز الجغرافي لعنيزة لتشمل أرجاء الوطن.
شكراً لسمو أمير المنطقة على الوقت الثمين الذي منحنا إياه، وشكراً لكل الذين التقيناهم من أهل عنيزة على الكرم واللطف وحسن الاستقبال.
وعلى المستوى الشخصي، شكراً جزيلاً لسعادة الزميل العزيز الدكتور عبدالرحمن الزامل ولأبنائه الكرام الأساتذة بندر وناصر ومحمد الذين أتاحوا الفرصة للقيام بهذه الزيارة وكانوا مثالاً للكرم والتفاني في تقديم كل سبل الراحة والاستمتاع بيوميات هذه الزيارة.