جانبي فروقة
تشير «معجزة نهر الهان» إلى نهضة كوريا الجنوبية بصعودها من رماد الحرب إلى قمة الاقتصاد العالمي والانضمام لنادي العمالقة الكبار - G20 ؛ ففي منتصف القرن العشرين كانت كوريا الجنوبية من أفقر دول العالم، مدمرة بسبب الحرب الكورية بين عامي (1950 – 1953م) والتي انتهت بوقف إطلاق النار دون معاهدة سلام مع جارتها الشمالية، واليوم وصل الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية إلى 1.8 تريليون دولار وأصبحت نموذجا يحتذى به في التنمية الاقتصادية والتكنولوجية.
بدأت كوريا الجنوبية في الستينيات بتنفيذ سياسات اقتصادية صارمة استهدفت قطاع التصنيع والتصدير؛ حيث تم الاستثمار في الصناعات الثقيلة مثل الحديد وبناء السفن والإلكترونيات والتركيز على التصدير كأحد أبرز الاستراتيجيات الوطنية، كما راهنت كوريا الجنوبية على التعليم كأحد أهم العوامل ولذلك استثمرت بشكل كبير في النظام التعليمي لتوفير قوى عاملة ماهرة ومبتكرة، وتم بناء اقتصاد معرفي يعتمد على الإبداع والإبتكار، ومن أهم ما قامت به الحكومة الكورية الجنوبية هو دعم نمو «الشيبول»، و«الشيبول» هو مصطلح يشير إلى الشركات العائلية الكبرى التي تملك شبكة واسعة من الشركات التابعة في مختلف القطاعات، وتُدار بشكل مركزي. ومن أشهر هذه التكتلات: سامسونغ (Samsung)، هيونداي (Hyundai)، إل جي (LG)، ودايو (Daewoo). هذه الشركات أصبحت فيما بعد علامات عالمية ساهمت في بناء هوية كوريا الجنوبية الاقتصادية
فبعد الحرب الكورية دعمت الحكومة الكورية الجنوبية هذه الشركات العائلية عبر القروض والتسهيلات الضريبية والتحفيز والتركيز على التصدير، فقامت شراكة بين الحكومة وهذه الشركات وتم تحفيز هذه الشركات على الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا لتحسين وتطوير جودة المنتجات، وتحقيق ميزة تنافسية لتتوسع في الأسواق الخارجية.
وبفضل الشيبول انتقلت كوريا الجنوبية من الصناعات التقليدية مثل صناعة النسيج إلى الصناعات المتقدمة مثل الألكترونيات والسيارات، وتجربة الشيبول الكورية تعد نموذجا ملهما للنهضة الاقتصادية القائمة على الابتكار والتنويع والتعاون بين الحكومة والشركات الخاصة.
ومازالت كوريا الجنوبية اليوم سباقة في بناء وتطوير بنيتها التحتية الرقمية وتستثمر في التعليم التكنولوجي الذي يعزز التفكير الإبتكاري وريادة الأعمال خاصة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
إن الحرب مع كوريا الشمالية جعلت كوريا الجنوبية تركز على بناء دولة حديثة قوية من خلال السلام الداخلي والاعتماد على الذات. وفي الوقت الذي برعت فيه كوريا الجنوبية في الاقتصاد والصناعة نجحت أيضا في بناء قوة ناعمة عالمية من خلال نشر ثقافتها وصناعة الترفيه (الدراما والموسيقى والأفلام) وخلقت موجة الـ»هاليو» التي أصبحت ظاهرة عالمية ساهمت في تعزيز حضور كوريا الجنوبية على الخريطة الثقافية، وكذلك عملت على نشر المطبخ الكوري فأطباق الكيميتشي والراميون أصبحت جزءا من المطبخ العالمي اليوم.
واليوم يمكن لسوريا أن تنسخ التجربة الكورية الجنوبية وتحقق نقلة نوعية واقتصادية واجتماعية شبيهة بها ويمكن لسوريا أن تحقق «معجزة نهر بردى» (ونهر بردى هو أقدم نهر في دمشق ويعني نهر الذهب بالفينيقية) من خلال طرح استراتيجية اقتصادية ذكية تتبنى التكنولوجيا الحديثة بما فيها الذكاء الاصطناعي والاستثمار في الصناعات الذكية والخضراء؛ حيث يمكن لسوريا اليوم أن تتبنى المبادرات التالية:
مبادرة «شآم الذكية» «Smart Sham» لبناء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي AI وذلك بإنشاء مراكز أبحاث متخصصة بالشراكة مع الجامعات والمؤسسات العالمية، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الحيوية مثل الصناعة والتعليم والصحة والزراعة: وتعزيز وتطوير المهارات المحلية بتعليم الشباب على مهارات البرمجة وتعلم الآلة وتحليل البيانات والتعاون واعتماد المنح الدراسية للطلاب مع الجامعات العالمية، وإطلاق حاضنات أعمال حكومية، وخاصة لدعام الشركات التقنية الناشئة وتطوير حلول ذكية تلبي احتياجات السوق المحلي.
وتطوير الصناعات الخضراء والذكية والاستثمار في الطاقة النظيفة حيث إن سورية تنعم بمصادر الطاقة المستدامة من الرياح والطاقة الشمسية وبناء مصانع خضراء تستخدم التكنولوجيا الذكية وتحقق أهداف التنمية. وفي مجال الصناعة الذكية إدخال تقنية انترنت الأشياء (IoT) والروبوتات في قطاعات حيوية كالصناعة والزراعة والتركيز في إعادة الإعمار على بناء المدن والبلدات الذكية التي تعتمد على البيانات والتكنولوجيا في تقديم الخدمات. وكذلك تدوير الموارد وبناء اقتصاد دائري.
مبادرة «شآم بول» « Sham pool» والاستفادة من تجربة الشيبول الكورية الجنوبية ببناء تكتلات اقتصادية تؤسس لشراكات بين الشركات الخاصة والحكومية لتعمل معا على تطوير قطاعات صناعية وزراعية ونقل ذكية باستخدام التكنولوجيا وتشجيع التجارة الدولية وتعزز الابتكار وتشجع نمو القطاع السياحي الذكي ببناء مطارات ذكية والاستثمار في القطاع الفندقي والخدمات السياحية؛ حيث تتميز سوريا بثراء تاريخي وموقع جغرافي مهم في العالم يمكن أن يكون مركزا لنقل الطاقة العالمية والنقل الجوي وأيضاً مركزاً مالياً مهماً.
مبادرة «شآمو ويف» «Shamo wave» والتي تركز على بناء القوة الناعمة الثقافية لسوريا ونشرها في العالم وتساعد في تطوير الصناعات الثقافية والإبداعية بدعم الإنتاج الدرامي السوري وتصديرها عالميا وتوظيف المنصات الرقمية للترويج للثقافة السورية المتنوعة والتي تعزز الهوية الثقافية بالاستثمار في التراث السوري وتطوير السياحة الثقافية وإطلاق مبادرات فنية وإبداعية للترويج للموسيقى والفن والأدب السوري عالميا ، وكجزء مهم من نشر القوة الناعمة يمكن العمل على نشر ثقافة المطبخ السوري الهائل والغني والمتنوع والشهي للغاية، حيث يشمل المطبخ السوري عددًا من المطابخ الإقليمية التي تعكس ثقافة وتقاليد كل منطقة في الشام من دمشق إلى حلب إلى حوران إلى الساحل السوري ودير الزور والحسكة وحتى بعض المطابخ الإثنية السورية من مطبخ أرمني وشركسي وكردي وتركماني وآشوري وسرياني.
قال مرة بارك تشونغ هي، رئيس كورية الجنوبية «قد لا نملك الموارد لكننا نملك العقول والإرادة وهما أعظم ثرواتنا».
** **
- كاتب أمريكي