نعيش هذه الأيام ذكرى عزيزة على قلوبنا وهي ذكرى مرور 200 عام على دخول الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود الرياض عام 1240هـ/ 1824م وإعادة تأسيس الدولة التي عرفت بالدولة السعودية الثانية، حيث إن الراجح من خلال تتبع الروايات والتعمق في نصوص المؤرخين عن ذلك الحدث أن طرده للقوات المعتدية من الرياض كان في الربع الأخير من عام 1824م حيث استطاع من خلال التخطيط والاستفادة من الدروس السابقة واعتماده على إستراتيجية عسكرية عبقرية أن ينجح في إضعاف خصومه وتوجيه ضربات خاطفة ضدهم والقضاء عليهم وإجلائهم ومن ثّم دخول الرياض وإعلانها عاصمة وإعادة تأسيس الدولة من جديد.
ولعلي في هذه الذكرى العظيمة أن اقتنص الفرصة للحديث عن الإمام تركي بن عبدالله ومدرسته وأسلوبه في الحكم والقيادة السياسية والعسكرية، تلك الشخصية الاستثنائية والقائد العظيم والإستراتيجي النادر الذي استطاع بعزيمة وإصرار من إعادة بناء الدولة السعودية من جديد، معتمداً على إرث الأسرة المالكة والدولة السعودية الأولى وفي الوقت نفسه أن أتحدث باختصار عن شخصيتين معاصرتين له كان لهما أثر كبير في تاريخ بلديهما.
لعل القارئ يتساءل ما سبب اختيار عنوان المقال ليكون عام 1769م والجواب هو أن هذا العام يعد عاماً تاريخياً مهماً وذلك لأنه ارتبط بولادة شخصيات سياسية وعسكرية بارزة في التاريخ الحديث فقد شهد ولادة الإمام تركي بن عبدالله في الدرعية في عصر الدولة السعودية الأولى والإمبراطور نابليون بونابرت في أجاكسيو في جزيرة كوسيكا التابعة لفرنسا والسيد آرثر ويلزلي دوق ولينغتون في دبلن بأيرلندا التابعة آنذاك للمملكة المتحدة.
لقد وضع هؤلاء القادة بصمة لا تنمحي في الحكم والإدارة فقد تولى نابليون الحكم حوالي 15 عاماً قضاها في تطوير فرنسا وكذلك قيادة جيوشها للعمل على حماية مكتسباتها ضد أعدائها كما يعد من أشهر الشخصيات الفرنسية السياسية والعسكرية في تاريخها. أما ويلنغتون فقد قاد الجيوش البريطانية في ساحات متعددة كإسبانبا وبلجيكا كما تولى رئاسة الوزراء في الحكومة البريطانية وفي الوقت ذاته فقد أسس هذين القائدين مدارس في منهجية الحرب والأمور العسكرية فحينما كان نابليون قائداً عسكرياً مميزاً في مجال الحرب الهجومية والحملات العسكرية الكبرى والأداء الاستثنائي في المعارك وما زالت تكتيكاته وأساليبه العسكرية الهجومية تدرس في أكاديميات وكليات الحرب في جميع أنحاء العالم، كان ويلنغتون من أبرز وأشهر قادة الحروب الدفاعية ولعل معركة واترلو التي صمد فيها أمام هجمات جيوش نابليون هي ذروة نماذج أسلوبه العسكري التي ما زالت تدرّس في أكاديميات وكليات الحرب في جميع أنحاء العالم.
أما بالنسبة للإمام تركي بن عبدالله فقد كان من أعظم القادة والإداريين الذين عرفتهم المنطقة خلال القرن التاسع عشر فقد استطاع بحنكة وذكاء من إعادة تأسيس وتماسك الدولة ونجح في توحيد البلاد في فترة قياسية وكان ذلك نتاج شخصيته المؤثرة القادرة على تحقيق أهدافها القارئة للأوضاع من حولها المتحلية بالصبر والعزيمة والقوة وأما عن جانب منهجه العسكري الذي وضع أسسها وعن نموذجه الحربي الخاص فقد كان مختلفاً عن هذين القائدين حيث اعتمد بشكل كبير على سياسة الاحتواء وعنصر المفاجأة وضرب الخصم بقوة وجسارة وكذلك الحفاظ على القوة العسكرية بأدنى الخسائر، مما جعل تكتيكاته العسكرية وتحركاته الحربية مضرب مثل في النجاح والقدرة على الانتصار.
كان الإمام تركي بن عبدالله في مقدمة جيش الدفاع عن الدرعية وكان يقود إحدى الفرق التي استطاعت تكبيد العدو خسائر فادحة والصمود أمامه بشكل راسخ لمدة تجاوزت الـ 6 أشهر وهي من أطول فترات الحصار في التاريخ الحديث. بعد ذلك، نجد أن تركي بن عبدالله في كل مكان فتارة في جنوب نجد وتحديداً في ظهرة عليه في غاره الشهير وتاره في الحلوة ومرة في ضرماء وأخرى في سدير ثم تجده في عرقة ثم أمام أسوار الرياض ثم في ثرمداء وهكذا. هذا التكتيك السريع والمخطط له، جعل الإمام تركي بن عبدالله ينتصر على خصومه عسكرياً ومعنوياً حيث استطاع أن يكبدهم خسائر كبيرة وفي الوقت ذاته جعلهم في تيقظ دايم بانتظار ضربات جديدة منه. كان الإمام تركي مضرب مثل في الحذر والتخطيط واتخاذ القرارات الشجاعة من أجل إعادة تأسيس الدولة وهذا يتبين في بقائه في الغار أو انتقاله للحلوة وتحصينها أو انتقاله إلى ثرمداء بانتظار مرور الحاميات وخروجها من المنطقة، كل هذا يبين منهج تركي بن عبدالله واستفادته من الدروس السابقة في عصر الدولة السعودية الأولى.
كان الإمام تركي بن عبدالله واثقاً بأنه سيستعيد حكم الدولة من جديد وبأن ذلك مسألة وقت وقد آمن الناس كذلك به وكانوا متأكدين بأنه سيقود السعوديين للنصر وإعادة الدولة مرة أخرى لذلك نجد أبو نهيه يقول ذلك بكل ثقة حيث يقول:
ما دام تركي ينقل السيف سالم
فلابد ما نرجع إليك جميع
لقد كان نابليون وويلنغتون مالىء الدنيا وشاغلي الناس في وطنيهما وأوروبا بأسرها بانتصاراتهما ودورهما الكبير في تشكيل التاريخ الأوروبي خلال فترة الحروب النابلويونية وما بعدها. كما كان تركي بن عبدالله هو الشخصية التي آمن بها السعوديون ولم يكن ماليء الدنيا وشاغل الناس في الجزيرة العربية بل كذلك في خارجها وقد استطاع أن يؤسس دولة ويحافظ عليها وعلى استقلالها وسيادتها في ظل صراعات وتجاذبات عالمية كبرى سواء كانت من الدولة العثمانية أو بريطانيا القادمة بقوة إلى المنطقة أو فرنسا التي بدأت ترغب بحصة من المنطقة أو روسيا التي بدأت بالزحف إلى الأراضي الدافئة أو والي مصر محمد علي الطامح إلى تأسيس نفوذ له ولذريته.
كنت قريباً في زيارة إلى ساحة معركة واترلو وبها عدد من المتاحف المتوسطة والكبيرة والنصب التذكارية التي تؤرخ لأحداث المعركة وتبين تفاصيلها وكان محور السردية في المكان هما نابليون وولنغتون. وكم نحن بحاجة إلى إبراز دور قادتنا العظام وأئمتنا المؤسسين وأحدهم هو الإمام تركي بن عبدالله فلم يكن تركي إماماً للدولة السعودية فحسب بل كان جندياً وفارساً وقائداً عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً فذاً.
لقد كان عام 1769م عاماً مميزاً بحق حيث ولدت به شخصيات عالمية مؤثرة في التاريخ الحديث الإمام والمؤسس الثاني للدولة السعودية الإمام تركي بن عبدالله ونابليون بونابرت وآرثر ويلنغتون، هذه الشخصيات التي سيبقى أثرها وتأثيرها خالداً عبر الزمن.
** **
- د. محمد بن علي العبداللطيف