د.عبدالله سعد أبا حسين
من المسلّمات في دراسة تاريخ العلم والثقافة في الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، أنّ الخراب والدمار لحقها أواخر عام 1233هـ وأوائل عام 1234هـ، ولحق كتب العلم فيها، ومع ذلك فإنّ قارئ مجموعة الرسائل والمسائل النجدية المطبوعة سنة 1344-1349هـ يقف على (828) صفحة لعلماء الدرعية، منها (114) صفحة رسائل وأجوبة مسائل بعثوها إلى أعلامٍ في تهامة وعسير، فمن أين للرياض جمعُ أصول عشرات الصفحات التي كُتبت في الدرعية، وخصوصاً تلك التي تخصّ أعلاماً في جهة بعيدة عنها؟
أحسب أنّ لا سبيل إلى الجواب إلا بتفتيش (جامع الأصول الخطية لرسائل ومؤلفات علماء الدرعية) مكتبة الشيخ محمد بن عبد اللطيف، فإنّ مقلّب مخطوطاتها يجد فيها كتب علم لفضلاء ووجهاء من تهامة وعسير، منها: كرّاسةٌ نسخها الشيخ أحمد بن عبد الخالق الزمزمي من آل الحفظي، فرغ منها سنة 1278هـ، وصرّح أنّه نقلها من خطّ جدّه الشيخ أحمد الحفظي بن عبد القادر بن الشيخ بكري العجيلي (ت:1233هـ)، والشيخ أحمد الحفظي نقلها من خطّ الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وفيها تراجم أربعة علماء، وهم: جدّ ابن تيمية، وشيخ ابن تيمية عبد الرحمن المقدسي صاحب الشرح الكبير في الفقه الحنبلي، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم(1).
ومنها: جزءٌ من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم، بخطّ الشيخ إبراهيم الزمزمي بن أحمد الحفظي، فرغ من نسخه سنة 1241هـ، وأوقفه لله تعالى سنة 1243هـ، وجعل النظر لابنه عبد الخالق [503/86]، ومنها: كُرّاسة قصائد لآل الحفظي، جمعها ونسخها الشيخ عبد الخالق بن إبراهيم الحفظي(2)، ومنها: كرّاسة منسوخة في الرياض بخطّ الشيخ الربيعي في فترة الجمع التي سبقت الطباعة بقليل، وفيها أجوبة علماء الدرعية على أسئلة الشيخ محمد بن أحمد الحفظي(3).
وإذا قرأنا سيرة الشيخ محمد بن أحمد بن عبد القادر آل بكري العجيلي وجدناه عالماً مشهوراً في زمن الدولة السعودية الأولى، كما أن والده الشيخ أحمد الملقّب بالحفظي كان عالماً مسموع الكلمة في عشيرته وأبناء عمومته في تلك الفترة، ويظهر من الـ (114) صفحة المطبوعة، ومما وُجد من مراسلات بينهما وبين علماء الدرعية أنّهما اطّلعا بفضل علماء الدرعية مؤلفات الشيخ المجدّد محمد بن عبد الوهاب، وتأثّرا بها، وأنّ الشيخ محمد الحفظي التقط منها نُبذة جليلة، وكتبها في كرّاسة مطبوعة بعنوان: (درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين)، قال في آخرها: (هذه قطرة من سحائب دعوة الشيخ المجدّد محمد بن عبد الوهاب التي حماها ونصرها وذاد عنها الإمام محمد بن سعود، ثمّ ابنه الإمام عبد العزيز) (4).
وجاء في رسالته التي بعثها إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ثناءٌ على الإمام عبد العزيز، ووصفه بالمجدّد، لأنّه اقتفى خُطى والده الإمام محمد بن سعود، ودعا إلى التوحيد، وحمى أهله بسيفه وسنانه وله منظومة يذكر فيها بعض سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب(5).
وممّا وجدته في مكتبته: مجموعٌ ضخمٌ يضمّ بعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كان في ملك الشيخ الوجيه فرّاج بن سعيد العسبلي الشهري، أهداه مدبّجاً بعبارات تقدير وإجلال للشيخ محمد بن عبد اللطيف [631/86]، وفيه شرحٌ للشيخ عبد الهادي بن محمد آل بكري العجيلي على ثلاثة الأصول، بعنوان: (سُلّم الوصول إلى الثلاثة الأصول)، سبقه رسالة القواعد الأربع، وسبقهما: تعليق للشيخ عبد الهادي على كشف الشبهات، سمّاه: (كشف الشبهة على الأربعة القواعد والثلاثة الأصول)، وفي عنوانه تحريكٌ لذهن المتلقّي، يبعثه على الربط بين مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا يجعلها محفوظةً متناثرة وحسب، ويبدو أنّ الشرح والتعليق سبقا غيرهما من الشروح على الرسالتين، ولا يزالا مخطوطين.
وفي أوّل المجموع شرحٌ لكتاب التوحيد ألّفه الشيخ عبد الهادي، وسمّاه: (تحقيق التجريد)، طُبع بتحقيق: د. حسن العواجي، وضمّنه دراسة علميّة للكتاب ومؤلفه، وبحسبها فإنّ الشيخ عبد الهادي لم يعتمد في شرحه على شرح الشيخ سليمان بن عبد الله (ت:1233هـ) (تيسير العزيز الحميد)، وإن كان التيسير سبق شرح العجيلي المتوفى بين سنتي 1260و1270هـ.
وبعد أن وجدت ما وجدت في خزانة مكتبة الشيخ محمد بن عبد اللطيف؛ تيقّنت أنّ تهامة وعسير متمثّلةً بالفضلاء والوجهاء الذين ذكرتهم؛ مدّت يد الجود والعطاء والكرم بأصول خطية لـ (114) صفحة طُبعت في مجموعة الرسائل، وتساءلت بعدُ: كيف عرف علماء جنوب المملكة حاجة مركز الدولة وعاصمتها الرياض إلى هذه الرسائل؟
وأجابتني دراسة تاريخية لأحد أبناء تلك المنطقة، وهو أ. أحمد بن محمد الحفظي، بعنوان: (مراسلات آل الحفظي)، أورد فيها رسالتين للشيخ محمد بن عبد اللطيف، بعثهما إلى علمين من أعلام آل الحفظي، وطلب فيهما كتباً يفيد منها مدّة مقامه في عسير، لأنّه كان حينها مُرسلاً لمهمة فيها من قبل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وطلب أيضاً نقل رسائل علماء الدرعية إلى أجداد آل الحفظي إلى الرياض إن كانت موقوفة ليكون أحظّ للواقف، قال: (ومقصودنا أن ينتفع بها المسلمون، ويُدعى لأجدادكم)، وذكر كتاب بدائع الفوائد الذي وجدته في مكتبته، وأفاد أنّه وصله، وطلب أشعار الشيخ أحمد الحفظي التي وجدتها أيضاً في مكتبته(6).
إنّ اكتشاف منشأ أصول صفحات علماء الدرعية التي بعثوها إلى تهامة وعسير؛ يُذكّر بما سبق نشره من اكتشاف أصول خطّيّة توصّلت بالبحث إلى أنّ البلدان: حوطة بني تميم، وشقراء، وأشيقر، وبريدة؛ أمدّت بها الرياض(7).
لقد كانت الرياض تستدعي إرث علماء الدرعية من بلدان وأقاليم قريبة وبعيدة، وكان الاستدعاء وما نتج عنه تحت نظر الملك عبد العزيز، يمدّه، ويحيطه، ويسأل عنه، وهو الذي أمر بطبعه، وكل ذلك يجعلنا أمام حقيقة محفورة في ذاكرة الحراك العلمي، وينبغي على أبناء الوطن وأحفاد ذلك الجيل أن يجهر بها ويُفاخر، وهي أنّ ثمّة مُنجزٍ علمي تمّ بنظر الملك وإمداد بلدان أقاليم المملكة، ولا تقتصر المشاركة في المُنجز على ما ذكرته من البلدان، فإنّني لم أُثبت إلا ما وصل إليه علمي، وأقطع أنّ ما توصّلت إليه قليل، وأنّ في شريف علم إخواني وأساتذتي المؤرّخين أكثر، وأقطع أيضاً أنّ بلداناً جدّت واجتهدت في حفظ كتب العلم ومن ضمنها إرث علماء الدرعية، لكنّ الخطوب دهمتها، وحالت بيننا وبين معرفة ما بذلوه.
الهوامش:
(1) برقم (666/86)، ولم أقف عليها مطبوعة.
(2) برقم (929/86)، وقابلت بين أكثرها وبين ما طُبع من قصائد آل الحفظي في كتاب (مجموع في تاريخ عسير)، تأليف أ. الحسن بن علي الحفظي، فوجدتها فيه.
(3) يُنظر: (568/86)، ص65-87، و(679/86)، من ص192-207، وأفاد عبد الرحمن آل الشيخ أنّ المجيبَ: سبطُ الشيخ المجدد، عبد العزيز بن حمد بن مشرف (ت:1264هـ)، (مشاهير علماء نجد)، ص213، ويُلحظ في منسوخ الربيعي وجود رسالة جوابية من الإمام عبد العزيز على نصيحة بعثها إليه الشيخ محمد الحفظي، وانفردت بها الدرر السنية عن مجموعة الرسائل ط(1) ج7، ص352، وط(5) (9/244-348).
(4) وهي ممّا وجدته مخطوطاً في مكتبة الشيخ ابن عبد اللطيف، مكتبة الرياض السعودية، برقم (651/86).
(5) أ. الحسن بن علي الحفظي، (مجموع في تاريخ عسير)، ص89، وفيه ما يدلّ على أنّ الشيخ أحمد الحفظي لمّا اطّلع وتحقّق؛ كاتب أبناء عمومته الأقربين من آل العجيلي، ونصحهم، ونبّههم، وتابعوه، واحتذوا حذوه، ص83.
(6) نشرتها دارة الملك عبد العزيز، ص99-104.
(7) مقال (صرير الأقلام وهدير المطابع)، ومقال (أوراق ابن صعب من بريدة إلى القاهرة)، منشوران في جريدة الجزيرة.