د. تنيضب الفايدي
تعتبر هذه الغزوة فريدة من نوعها حيث دخلت بعدها قبيلة بأكملها في حضن الإسلام وصارت دعاة إلى الله عزوجل، فبعد ما ردوا الصحابة الأسرى وقالوا أصهار نبينا صلى الله عليه وسلم، تركت هذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أثراً جميلاً في قلوب بني المصطلق، فسارعوا إلى الإسلام واعتنقوه عن إيمان راسخ وقناعة كاملة حيث أدوا الزكاة وقد كرم الله لهم بإنزاله قرآناً في تصديقهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، وقد قامت هذه القبيلة من خدمات جليلة للإسلام، فلقد كان بنو المصطلق عام الفتح ضمن الكتائب الإسلامية الزاحفة نحو مكة وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية بقيادة ثلاثة من أبطالهم وهم: عمرو بن سالم، وبسر بن سفيان، وأبو شريح الكعبي خويلد بن عمرو وهكذا ظل بنو المصطلق دعاة إلى الله عزوجل.
وقد تعددت الحوادث الجسام في غزوة المريسيع ونزلت بعض سور القرآن الكريم تثبتها، من تلك الحوادث: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وحادثة الإفك، والخلاف بين زعيمي الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ونزول آية التيمم.
أما الفتنة التي حدثت بين الأنصار والمهاجرين بسبب المنافقين كادت تفكك وحدة المسلمين وتمزق شملهم وتجعلهم شيعاً وأحزاباً، لكن عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلم والصبر والرفق حيث أمر بترك دعوى الجاهلية وأعاد الإخاء والمودة التي هي رمز الإسلام في نفوس المسلمين، وهكذا انتهت هذه الفتنة في وقتها ونزلت سورة (المنافقون) لتكشف بعض أعمالهم في بث العداء والفرقة بين المسلمين، كما جاء توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي حيث تحدث الحوادث وأكاذيب المنافقين وحذر المؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا ومتاعها، قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. وأبرزت تلك الوقعة صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية مثل: الصبر والعفو والتسامح.
كما حدثت قصة فقد عائشة رضي الله عنها لعقدها حيث أفاض في ذلك المنافقون، وكانت محنة حادثة الإفك أشدّ في وقعها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلّ المحن، حيث طعن في أخص ما يعتز به إنسان، وأخص ما يتصف به من شرف وكرامة، حيث ابتلي في زوجه عائشة رضي الله عنها مع حرصه عليها وحبّه صلى الله عليه وسلم لها، ونزلت سورة النور لتبرئتها، وأرشدت الآيات إلى ما ينبغي على المؤمن فعله عند سماع الشائعات من حفظ اللسان وعدم الخوض في الأعراض.
وسورة النور بدأت بقوله سبحانه وتعالى {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} والسورة الطائفة من القرآن يفصل بينه وبين التي قبله بالبسملة إلا في سورة البراءة وأقل ما تشتمل عليه السورة من الآيات ثلاث. ومعنى كلمة {سُورَةٌ}: الرفعة والشرف، قال الشاعر:
ألم ترَ أن الله أعطاك سورةً
ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب
وهي سورة عظيمة رسمت المنهج السليم للمجتمع الإسلامي وفرضت فيها أحكام متعددة، ومنها براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث أجمع العلماء قاطبةً على أن من سبّ عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن ورماها بما اتهمت به فإنه كافر معاند للقرآن الكريم.
كما أثبتت أحداث غزوة المريسيع بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث عاش الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المحنة بكل أبعادها شهراً كاملاً إلى نزول الوحي فثبتت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة الوحي، كما أثبتت الأحداث أن المسلمين والمسلمات أمام الحدود سواسية، مهما كان فاعلها أو فاعلتها فقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على أخت زوجه وعلى شاعره، وهناك تطبيقات تربوية غاية في الأهمية تستنبط من أحداث غزوة بني المصطلق.
وفي طريق العودة وبالقرب من المدينة نزلت آية التيمم، فعن حذيفة بن أليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعلت الأرض كلها مسجداً، وجُعِل تربتها لنا طهوراً ...» حيث نزلت الآية التي ذكر فيها التيمم في هذه الغزوة، فقد روى البخاري حديثاً خاصاً بآية التيمم فعن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني وقد أوجعني ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية (6) أي: أن هذه الآية نزلت بالبيداء. قال أسيد بن الحضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم.