لا شك أن كتابة الرثاء من أصعب الكتابات، خاصة حين يكون عن رمز من رموز بلادنا الغالية.. معالي المرحوم بإذن الله تعالى عبد الله العلي النعيم، الذي عُرف بين العامة والخاصة بلقب «أبو علي»، كان مثالاً يحتذى به في مختلف المجالات التي خدم فيها، تاركا إرثا ًخالدًا ومواقف إنسانية لا تُنسى.
عمل «أبو علي» في التعليم والإدارة والعلاقات الإنسانية، فبرز كرمز في العمل الإداري نال إشادة الجميع بقدراته وحنكته، كما ترك بصمته في المجال الاجتماعي، وهو ما يشهد به كل من زار مركز الملك سلمان الاجتماعي ومكتبة الملك فهد الوطنية في مدينة الرياض، ومركز الأميرة نورة الاجتماعي ومركز ابن صالح في مدينة عنيزة، ولم يكتف بذلك، حيث أصبح رمزا في العمل الإنساني والتطوعي، حيث ختم حياته في هذا المجال، ويشهد على ذلك تبرعاته في المملكة وخارجها، وإنشاء المدارس والمساجد عنوان لذلك».
كان «أبو علي» رحمه الله مثالا يحتذى به في الأمانة والإخلاص، حيث أثبت كفاءته في كل عمل أسند إليه من الدولة، ما أكسبه احترام الجميع وتقديرا مستحقا من القيادة، توج بمنحه وسام الملك عبد العزيز من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وفي موقف يجسد مدى تقدير القيادة لجهوده، حاول خادم الحرمين الشريفين، عندما كان أميرا لمنطقة الرياض، إقناعه بالعدول عن قراره بالتقاعد أثناء رئاسته الأمانة مدينة الرياض، إلا أن «أبو علي» أشار إلى أن طلبه للتقاعد كان نتيجة شعوره بأنه قدم كل ما لديه لخدمة مدينة الرياض.
امتلك «أبو علي» رحمه الله قلبا رقيقًا، فقد روى لي أحد الضباط من أبناء المنطقة الغربية قصة قصيرة تحمل عمقا كبيرا في معناها، وخلاصتها أن زميلنا راجع أمانة مدينة الرياض للحصول على منحة مخصصة له، ولكنه عند استلامها فوجئ بعدم العثور على معاملته، فأشار إليه أحد العاملين أن يراجع الأمين مباشرة، فدخل مكتبه في الصباح الباكر مع مجموعة من المراجعين، وكان منبهرا بسرعة الأمين في التعامل مع الأمور الإدارية، وعندما بقي زميلنا ورجل مسن جاء الدور على زميلنا، فاستأذنه «أبو علي» ليقدم الرجل المسن عليه أولاً، وبدأ المسن بعرض مشكلته أمام الأمين وقال الرجل: «يا أبو علي، عندك مسؤول في فرع البلدية طلب مني تلييس واجهة البيت وأنا والله يا أبو علي ما أملك قيمة لحم لعيالي السبعة. وكان الرجل صادقًا في تعابير وجهه وملبسه، مما أظهر صدقه في قوله، فرد عليه «أبو علي» بلطف: «استرح يا عم».
يقول زميلنا إنه لاحظ أن يد «أبو علي» تحركت داخل درج مكتبه، وبعد ثوان أخرج ظرفا وقدمه للرجل قائلا: «ليّس واجهة بيتك، والباقي لعيالك، دعا الرجل له بالخير وهو يغادر المكتب، متأثرًا بهذا الموقف النبيل.
وعندما حان دور زميلنا عرض مشكلته على «أبو علي» وأخبره أن الموظفين أبلغوه أن معاملته غير موجودة، تأثر «أبو علي» رحمه الله، واتصل برئيس القسم قائلاً: «لن أترك المكتب حتى أرى معاملة فلان.» وبالفعل، وبعد فترة من الانتظار، تم إحضار المعاملة ووجه بشأنها مباشرة، مما أدخل السرور على قلب زميلنا.
وعندما خرج زميلنا، وجد الرجل المسن الذي تحدث مع «أبو علي» مسبقًا، يقول وهو يركب سيارة الأجرة: «تصدق أبو علي أعطاني مبلغ ثلاثين ألف ريال جزاه الله كل خير». وصار يتمتم بالدعاء له وهو في طريقه.
والمواقف النبيلة كثيرة ومنها ما رواه جارنا عند علمه بوفاة «أبو علي»، حيث قال: «كانت توجد مساحة بيني وبين جاري تُسمى «الزوائد التنظيمية»، وعندما راجعت الأمانة، رفض المسؤول التعامل معي بحجة أنه ليس لي الحق في المطالبة فنصحني البعض بمراجعة معالي الأمين.
وعندما عرضت الموضوع على «أبو علي» رحمه الله، قال لي: «وعدك غدًا الساعة السابعة والنصف عند الأرض» وفعلاً، حضر «أبو علي» في الوقت المحدد، ومعه متر القياس، وبعد أن قاس الأرض وجدها أكثر من ثمانية أمتار عرضًا، فقال لي أبو علي: «هذه ما يبي لها قاضي الأرض تقسم بينك وبين جارك. تعال للأمانة غدًا، ونعطيكم خطاب لضم جزء من الأرض في صكك أنت وجارك».
ما ذُكر يدل على أن المسؤول عندما يقف على الطبيعة، تتضح له الصورة ويعالج الموقف حسب ما لديه من تعليمات لتسهيل أمور المراجعين. وهذه العينة من المسؤولين يجب أن يقتدي بها الآخرون.
بلادنا فقدت شخصية فريدة، رجل مخلص أفنى عمره في خدمة وطنه، بوفاته انطفأت شمعة مضيئة ولكن أثره سيبقى خالدًا في ذاكرة كل من عرفه أو استفاد من أعماله الجليلة.
كان رحمه الله محبا وداعمًا للشباب، مشجعا لهم على التعليم والعمل الجاد، وكان يشجع كل شاب يقابله قائلاً: «بكرة إن شاء الله تصير دكتور أو تصير مهندس لتخدم وطنك».
جعل الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شفيعا له ولكم يوم الدين، وأعزي وطننا بفقده وأعزي ابنه المهندس علي عبد الله النعيم، ونعزي أنفسنا والعم الدكتور عبد العزيز العلي النعيم شقيق المرحوم ونعزي إخوته الكرام وأبناءهم وجميع أسرة النعيم بفقد هذا الرمز العظيم، ولقاؤنا بإذن الله معه في جنة عرضها السماوات والأرض. والحمد لله على قضائه وقدره، وسبحان الحي الذي لا يموت.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- محمد بن عبد الرحمن الفوزان