أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
ثمّة أدلّة تثبت أنّ المعاجم فاتها ألفاظ مما قالته العرب في كلامها ولهجاتها وأشعارها ونوادرها وغريبها، والأدلة نوعان، أدلة نقلية وأدلة عقلية، وسأذكر في هذه المقالة الأدلة النقلية، فأقول: أدرك علماؤنا أن لغة العرب بمفرداتها وأساليبها وأشعارها تبدو لهم كمحيط لا ساحل له، وأن جهودهم ووسائلهم محدودة، فاعترفوا بأن اللغة لم تُجمع ولم (تُمعجم) كاملة، وأنه ضاع منها شيءٌ غيرُ قليل.
فهذا ابن سلام الجمحي يروي في طبقات الشعراء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن شعر العرب حفظ منه القليل وذهب منه كثير. وقال: «وممَّا يدلّ على ذهاب الشّعر وسقوطه قلَّة ما بقي بأيدي الرواة المصحّحين لطرفة وعَبيد... ونرى أَن غيرهما قد سقط من كلامه كلامٌ كثير».
وقال الإمام الشافعي: «ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي».
وتواتر النقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير، ونُقل عنه قوله: «قد ذهب من كلامهم شيء كثير».
وذكر ابن قتيبة في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء) أنّه يتعذّر الإحاطة بالشعر، وأنّ الضائع من شعر القبائل كثير. وروى عن الأصمعي أنه قال: كان ثلاثة إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزُهم، يقال لهم: منذر ونذير ومنتذر.
ونُقِل عن ابن دُرُستُوَيْه أَنَّ كلام العرب واسعٌ، وأنّ العربيَّةَ لا يُحِيطُ بها إلاّ نَبِيّ.
ولابنِ فارس في الصاحبي بابٌ اسمه: (باب القولِ على أنّ لغةَ العرب لم تنتهِ إلينا بكلّيتِها، وأنّ الذي جاءَنا عن العرب قليلٌ من كثير، وأنّ كثيرًا من الكلام ذهبَ بذهاب أهله)، وقال: «ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أنّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ».
وقال ابن فارس معقّبًا: «وأَحْرِ بهذا القول أن يكون صحيحًا؛ لأنّا نرى علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يُخبِّر عن حقيقة ما خُولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان».