د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ما زال هذا النحو الشامخ المدهش يستقطب أعمال طلاب العلم والدارسين، وما هذا الكتاب (في خصائص النظام النحوي: مقاربات تحليلية) الذي أبدع كتْبه الأستاذ القدير الدكتور زكي بن صالح الحريول سوى خطوة في سعي العلماء المحدثين الجادّين في سبر أغوار هذا العلم، وهو أمر عبّر عنه المؤلف القدير بقوله «ويمكنني القول بأن استخلاص الخصائص الكبرى لأنظمة البناء اللغوي (الصورتي، الصرفي، النحوي، الدلالي) هو جهد جوهريّ يقوم بعقلنة التفاصيل وإصباغ التقعيد صفة الموضوعية من داخل التراكيب، في مقابل ما يسبغه علم أصول النحو من موضوعية للأحكام من جهة الاستدلال وقواعد الاحتجاج». ثم بيّن ما يقتضيه هذا العمل الجليل، قال «وإن البحث في خصائص النظام النحوي يحتاج إلى دراسات عدة وذات نفَس تحليلي صبور، لتكون دقيقة التعبير عن الواقع اللغوي للتراكيب العربية، وقائمة على استقراء كافٍ غير عَجول». وليس بطوق باحث واحد أن ينهض بأمر كهذا؛ ولذلك ركز الباحث على درس ثلاث خصائص تركيبية نظامية في جوانب مركزية مختلفة: الأولى في جانب الدلالة التركيبية فبحث فيها (شروط إدارة المعنى في النظام النحوي)، وأما الثانية ففي الجانب الإثرائي لعطاءات النظام، فبحث (قوانين التركيب النحوي وإنشاء القول)، وأما الثالثة ففي جانب تضافر المستويين الصرفي والنحوي في النظام، فبحث (فاعلية المشتقات في النظام النحوي).
ولما كانت اللغة تضافرًا بين اللفظ والمعنى كان من المناسب أن يعالج في الفصل الأول من الكتاب (شروط إدارة المعنى في النظام النحوي) ممهدًا لذلك بحديث عن (الدلالة والنظام النحوي)؛ إذ «كل ما صلح به المعنى فهو جيد، وكل ما فسد به المعنى فمردود»، هذا قول المبرد الذي عليه القدماء، فلا فصل بين الدلالة والنحو، يقول الباحث «وفي تقديري أنّ محاولة الفصل بين الدلالة والنحو وهمٌ سلم منه الدرس النحوي القديم، وسقطت في فخّه كثيرٌ من الاتجاهات اللسانية الحديثة».
ويمضي الباحث إلى تفصيل القول في شرط إدارة المعنى، ويقسمهما قسمين (شروط الفائدة) و(شرط أمن اللبس)، وأما الفائدة فتقتضي تمام أجزاء الكلام بما يحقق الإسناد، وأن يكون بين الأجزاء علاقة وارتباط صحيح، وأما أمن اللبس فشرط هو من مقاصد التقعيد اللغوي، وإن كان لا يلزم في كل تركيب؛ إذ أكدت الأحكام النحوية حتميّة تسلل اللبس إلى بعض تراكيب اللغة مهما حاول النظام الحدّ منها، ويذكر الباحث أن «ثمة نواميس في اللّغات عامّة وخصائص في اللغة العربية خاصّة تدل على طبيعة هذا المبدأ»، وذكر أن منها حتميّة التشكيل اللغويّ، فهو مبنيّ على عدم التكافؤ بين المباني والمعاني الإنسانية، فالطبيعة الاجتماعية للّغة لها أثرها في حدوث اللبس في بعض التراكيب، ومنها أنَّ مرونة التراكيب اللغوية تهب استعمالاتها ألوانًا من التغيّر والتحوّل والعدول، وهو ما يضطر إلى شيء من الاشتراك اللفظي الذي هو مظنّة لبس. وللنظام النحويّ منهج في مدافعته بقوانين عرّف الباحث منها القواعد الأوليّة كرفع الفاعل ونصب المفعول ونحوها، ومنها تبين أحكام الرتبة وأحكام التقديم والتأخير، وغير ذلك من علامات أو قرائن مقاليّة أو مقاميّة. وأكثر ما يدافعه النظام ما اطّرد من اللبس أو قلب المعنى.
وبعد أن فرغ من بيان ما هو عامّ، أي علاقة الدلالة بالمعنى، انتهى إلى ما هو أخصّ في الفصل الثاني فدرس (قوانين التركيب النحويّ وإنشاء القول) لبيان أثر هذه القوانين في البناء اللغويّ الذي يحقق الغرض ويفي بالتواصل بين مستعملي اللغة، وكذلك أثره في الإبداع اللغوي المتعدد الأنماط من خطب وأمثال وقصص وروايات ومقامات وأشعار، وهي ألوان تواصلية آخر الأمر، لا تؤتي أكلها من غير سلامة قوانين التركيب ونجاعتها المؤثرة في جودة الإنشاء. إذ تثري تلك القوانين الإبداع بما تهبه من «فنون القول بالرخص التي تزيد من موارد الإبداع». ويمثل لهذه العلاقة الإثرائية بين التقعيد والإبداع بسمتين مهمتين إحداهما (احتواء النظام النحوي لمولدات الإبداع اللغوي وتنظيمه لها) والأخرى (مراعاة النظام لخصوصية الأجناس الأدبية، وطبيعة تشكلها)، ومن أهم مولدات الإبداع إمكان العدول عن الأصول والاتساع في الاستعمال، إذ نجد (انخفاض صرامة التقعيد لغاية الثراء الدلالي)، وإن يكن النظام بما هو نظام ذا ثبوت وسكون فإن القول والإنشاء والإبداع ينطلق مستفيدًا من إمكاناته؛ وبذا يمكن (الجمع بين سكون النظام وحركية القول)، بشرط (ممانعة هدر العدول عن الأصول التركيبية بغير فائدة)، ونرى كيف يثري النظام الإبداع بمراعاة خصوصية الأجناس الأدبية وطبيعة تشكلها؛ فالشعر له لغته الخاصة التي تحكمها قوانين العروض من وزن وقافية وتخير ألفاظ موحية مؤثرة، وهذا يقتضي جملة من الرخص لا يقبلها النظام في السعة والنثر، والضرورات الشعرية من أوضح أمثلة هذه المراعاة، ونرى أن للمَثل قوانينه التي تجعله مغلقًا فيستعمل كما ورد من غير تغيير مهما كان معاندًا لقوانين التركيب.
وأما الفصل الثالث من هذا الكتاب الجليل فهو التفات إلى جانب المستوى الصرفي المشارك في تكوين النظام النحوي، وأوضح ما يكون ذلك في (فاعلية المشتقات في النظام النحوي) التي تبرز (فعل المقولات وحركية السمات)؛ فنرى (فاعلية المشتقات في النظام النحوي) التي وهبتها (البنية التحتية: الحدث والذات) الضالعان في الوظائف النحوية، فالمشتق معبر عن جانب فعلي هو الحدث ومعبر في الوقت نفسه عن جانب اسمي هو الذات، فاسم الفاعل هو ذات أنجزت الفعل أو اتصفت به، ولذا أمكن أن يعمل المشتق عمل فعله حينًا، وأن يكون مسندًا إليه كالاسم الجامد حينًا، ويبسط الباحث قضية قابلية المشتق (قابلية الانجذاب نحو القطبين الاسمية والفعلية)، فالمشتق ينجذب نحو الفعل المضارع بلفظه ودلالته؛ فلفظه مأخوذ من الفعل وهو يدل على الزمن دلالته، ويكون له ما يكون للفعل من دلالة الحدوث والتجدد، والمشتق في مواطن ينجذب نحو الاسمية بما يقبله من دلائله ومن عمله في وظائفه من ابتداء وإخبار، ونحوهما. ولذا كان بين اسميّة المشتق وفعليّته تفاعل، يقول الباحث «إن الاسمية والفعلية لألفاظ الصفات في تفاعل تركيبيّ مستمر، ولا تكاد تمعن النظر في انجذاب الوصف نحو الفعليّة إلا وتجد من جهة أخرى انجذابًا تركيبيًّا يُقرّبه من الاسمية. وقد مرّ بنا أن السمة التي تصنفها نظريًّا من خصائص أحد القطبين قد تحمل داخل تركيب ما طبيعة مخالفة للقطب الذي تنتمي إليه. وهذا يعني أن تحديد وجهة اللفظ نحو أحد القطبين يخضع لاعتبارات، منها قوة السّمة ومدى مقاومتها للسمات المضادّة، كما يخضع لطبيعة التركيب الذي يتحكّم في شكل التأثير والتأثر بين السمات».
هذه محاولة لتعريف مضمون الكتاب؛ ولكنها لا تكفي في بيان قيمته، فالصيد في جوف الفَرا، فهو مكتنز بالتفاصيل والدقائق والمثل والشواهد، وكل أولئك جديرة باطلاع القارئ وبخاصة المتخصصون وطلاب الدراسات العليا، والكتاب ليس سهل الانقياد؛ إذ يقتضي فهمه حقّ الفهم إلمامًا واسعًا بأحكام النحو والصرف.
**__**__**__**__**__**
* نَشرت الكتاب في طبعته الأولى دار كنوز المعرفة في جدة، عام 1444ه/ 2023م.