د.عبدالإله موسى آل سوداء
يشيع في البحوث الأكاديمية استعمال لفظ (قَارَبَ يُقارِبُ مقاربةً) للدلالة على معنى نقد الكلام وتفسيره أو تطبيق منهجٍ نقدي عليه، وكان في نفسي شيءٌ من إطلاق هذا اللفظ على المعنى المشار إليه، إذْ ما علاقة مادة (قرب) التي تدل بمعناها الوضعي على الدنو بنقد الكلام وتفسيره على حسب منهاجٍ معين؟
وحين يتصفح الباحثُ المعاجم القديمة لا يجد فيها ما يومئ إلى أن مادة (قرب) باشتقاقاتها قد تدل على معنى تفسير الكلام وشرحه أو إنزال منهج نقدي عليه، بل إنه لمن الملاحَظ أن عبارة (قَارَبَ النصَّ) قد تشير إلى ضد المراد، إذْ المقاربة من الشيء تعني عدم الغوص فيه، بينما يُراد من الكلمة الغوصُ في النصوص المنقودة والتعمّق في تحليلها ! فالمقارَبَة إذنْ هي البقاء عند أسطح النصوص لا حَفْرُها؛ فكيف ساغ استعمال عبارة (قارَبَ النصَّ) بمعنى (تَعَمَّقَ في شرحه بحسب منهجٍ معين) ؟
وكنتُ قبل سنواتٍ سألتُ أحد الأساتذة المتخصصين في النقد عن علاقة معنى القُرب والاقتراب والمقاربة بتحليل النص ونقده، فأفادني بأن الاقتراب من النص يعني القرب منه ومعايشته، ولم أقتنع بهذا الجواب؛ لأنه لا يسوّغ إطلاق لفظ (القُرْب والاقتراب والمقاربة) على معنى شَرْح الكلام وتفسيره بحسب منهج معين، حيث لا توجد علاقة بين معنى (الدنو) وبين معنى(نقد الكلام) إلا بتكلّف التأويل والمجاز.
وهل يجوز لنا أن نَحْرِفَ دلالةَ كلمةٍ عن معناها الوضعي إلى معنىً آخر بعيد عنها؟ لا أظن أن العربية الفصحى تُبيح ذلك، إلا فيما يُعرَف بمسألة (التضمين النحوي) وهو إجراءٌ له شروطه وضوابطه، والتضمين النحوي هو إعطاءُ الفعل معنى فعلٍ آخر باستعمال حرفٍ معينٍ يتعدى به الفعلُ الآخر، وذلك كقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالَهم إلى أموالكم) أي لا تَضموها إليها آكلين لها. فضُمِّنَ الفعل (أكل) معنى الضم باستعمال حرفٍ يتعدى به الفعل (ضَمَّ يَضُمّ)، وكذلك في قولنا: (تَـخَرَّجَ فلانٌ من الكلية) أي انتهى من الدراسةِ مُـتَعَلِّمًا، فضُمِّنَ الفعل (تَخَرَّجَ) الذي يعنى تَعلّم وتأهّل معنى الانتهاء ثم عُدّي بالحرف (من) نظرًا للمعنى المضمّن، مع بقاء المعنى الأصلي لـ(تَخَرّج).
أما في كلمة (قَارَبَ مقاربةً) فلا يوجد مسوّغ في نظري يُبيح حَرْفَ دلالة القُرب والاقتراب لتشير إلى معنى الشرح وتفسير الكلام، كما لا يجوز أن نَحْرِفَ معنى كلمة (زَرَعَ) لتدل على معنى (حَصَدَ)؛ فالزراعة شيء، والحصاد شيء آخر، وإنْ كانا من الحقل الدلالي نفسه.
وجاء في السنة النبوية عبارة (سددوا وقارِبوا)، ومعنى المقاربة هنا أي الاقتصاد في الاستقامة وترْك المبالغة والغلو أو أنها الاقتراب من الاستقامة، وهذا معنىً لا يدعم صحة استعمال (قارَب) لتدل على (نقد الكلام بحسب منهجٍ معين)، وحين تأملتُ سبب تسلل هذه الكلمة (قارَبَ مقاربةً) إلى حقل البحث الأكاديمي وجدتُ أن الترجمة غير الدقيقة هي المسؤولة عن ذلك، حيث يشيع في البحوث الأكاديمية الغربية استعمال عبارة (approach pragmatic) مثلاً، أي (دراسة تَداولية) ، وإذا أردنا الدقة في الترجمة يمكن أن تُترجم بـ(دراسةٌ بالـنَّهْج التداولي) أو (تَنَاوُلٌ تداولي) أو (معالجَةٌ تداولية)، فـ(approach) يُقابلها في اللغة العربية في هذا السياق كلمة (نَـهْج/منهج) أو (معالجة) أو (طريقة في الدراسة) أو (تَناولُ الخطاب على نحوٍ معين)، ولكن الترجمة الخاطئة-في نظري- عمدتْ إلى الدلالة الأخرى لكلمة (approach) وهي (القرب والاقتراب) فاشتقّتْ منها لفظة (قارَبَ مقارَبةً) لتدل بها على معنى (نقد الخطاب بطريقة معينة) ، وهذا لا يسوغ، إذْ كان من الواجب النظر إلى المعنى السياقي الصحيح الذي تُفيده الكلمة في اللغة الإنجليزية، كما في جملة:
His approach to the problem was very creative
أي: طريقته في التعامل مع المشكلة كانت إبداعية.
وكذلك في جملة:
The new approach to teaching is very effective
أي: الطريقة الجديدة في التدريس فعّالة.
وهنا يُلحَظ بجلاء أن كلمة approach تعني (طريقة في التعامل مع الشيء) ، وأين هذا المعنى من (القرب والاقتراب والمقاربة) ؟!
إذن، الصواب هو أنّ approach التي تأتي في سياقات نقد الخطاب يُقابلها في اللغة العربية لفظ (نَـهْج) أو (تَنَاوُل) أو (أسلوب تعامُل) أو (كيفية دراسة الخطاب) وليس (مقاربة)، وبعضهم قد يُترجم approach بـ(دراسة) كما وجدتُه في بعض الترجمات، وهي ترجمة تفتقد للدقة أيضًا، والصواب أن approach تعني: (كيفية دراسة الموضوع).
إذن، فقولنا مثلاً: (سأُقارِبُ النصَّ مُقارَبَةً موضوعاتية/أسلوبية/تداولية) خطأٌ، وصوابه: (سأدرس النص بنَهْجٍ موضوعاتي أو بمنهجٍ موضوعاتي، أو بطريقةٍ موضوعاتية أو بتناوُلٍ موضوعاتي) هذا إذا أردنا إصابة التر جمة الدقيقة لكلمة approach ، وكذلك أرى أنه ينبغي تعديل عناوين البحوث من (مقاربة موضوعاتية/تداولية/أسلوبية إلخ) لتصير (تَناوُلٌ موضوعاتي أو نَهْجٌ موضوعاتي أو تَعَامُلٌ موضوعاتي أو طريقةٌ موضوعاتية).