سهام القحطاني
إن إشكالية كتابة التاريخ هي وظيفتها فهل هي «تدوين الحقيقة أو صناعة الحقيقة»؟،باعتبار أن التأريخ هو إعادة تمثيل للوقائع والأحداث، وحينما يفقد المؤرخ السيطرة على ضبط الظرفيات في التمثيل الثاني وهو ما يسحبه إلى الاختلاق.
ينظر بعضهم إلى أن «التاريخ «هو»الحقيقة الكاملة المؤكدة»، وهذه النظرة لا يُمكن احتسابها ضمن الصحة المطلقة، ولا يمكن أيضا احتسابها ضمن الخطأ المطلق؛ لأن القول الإنساني سواء بالرصد أو التحليل أو الاستنتاج لا يخلو من «هوى الظن» ولو في أدني نسبه بسبب ما يحتفظ به من ميل ولو في أدنى درجاته، فالمؤرخون «يرسمون الماضي بريشة صنعتها تصوراتهم» موسوعة ستانفورد-
يرى ابن خلدون أن التاريخ هو «فن» وهذا التعريف اقتبسه من المؤرخ الروماني «تاسيت» لكن لو بحثنا في خلفية وصف المؤرخ الروماني لهذا الوصف سنجد سببه أن التاريخ الروماني كان يُقدم من خلال «الدراما» ولذلك فإن طبيعة الفن تغلب حيثيّة التاريخ.
لكن لماذا اختار ابن خلدون هذا الوصف للتاريخ بأنه «فن»؟ ولا أظن أن هناك معطى إجرائيا لهذا الوصف عند ابن خلدون سوى تقليد القدماء في تعريف الماهيات، وخاصة وأن المنهجية التي وضعها ابن خلدون تتناقض مع مفهوم التاريخ كفن، والذي يعرفه غوستاف لوبون في كتابه «فلسفة التاريخ» أنه كلما كان المؤرخ متفننا «قلّ تدقيقه، فالواقع أن عيانه الشخصي يقوم مقام الحقائق ويكفي عدد قليل من المبادئ غير الثابتة لتزويد خياله» وهذا المسار هو سبب «في كون إدراك الحادث عينه يختلف باختلاف المؤرخين تبعا لمبادئ كل زمن».
أو لعل ابن خلدون قصد بوصف التاريخ بالفن «المهارة والخبرة» نسبة إلى صفة الفاعل وليس وصف الوظيفة.
يفرق ابن خلدون بين التاريخ في ظاهره كوسيلة نقل «أخبار الأيام، تنمو فيه الأقوال، و تُضرب فيه الأمثال»، و في باطنه «نظر وتحقيق وتعليل للكائنات و مباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق».
ثم يضع ابن خلدون لمؤرخ التاريخ أو كاتبه مسطرة منهجية لكتابة التاريخ.
فهذه المنهجية تحفظ للوقائع التاريخية مصداقيتها، والتخلي عنها قد تُسرّب الهوى والظن والتلفيق في بناء خلفية الحادثة التاريخية، وهو ما يؤكده ابن خلدون بقوله: «إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزُخرف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها».
ويٌحسب الفضل لابن خلدون أنه أسند كتابة التاريخ إلى أدوات علميّة أهمها: الثبات والتكرار والمدى الزمني والتوافق والكميّة.
أو ما يصفها «بأصول العادة، وقواعد السياسة وطبيعة العمران، وقياس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب»، ويسميها المفكر «كارل هيمبل «بوظيفة القوانين الكلية للتاريخ».
وأي اضطراب غير معلل في تلك الإجرائية التي خطها، يخلق حلقة مغالطة نحو حقيقة الحدث الأدبي وواقعيته. أو»مزلة القدم والحياد عن جادة الصدق».
ويصف ابن خلدون الخطأ في كتابة التاريخ «بالمغالطة» وهذه المغالطة تقع عندما يتراخى كتّاب التاريخ أو المؤرخون أو أئمة النقل في الالتزام بتلك المنهجية التي وضعها، من خلال عدم التدقيق في مصدر منقول الحكاية أو الواقعة» لاعتمادهم على النقل غثا أو سمينا»، وعدم تطابق المنقول على الأصل أو المتشابه على الأصل «فلم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة».
الشرط الأخير «ولاسبروها بمعيار الحكمة» يدّل على مدى التعمق العلمي عند ابن خلدون إذ إنه هنا يُشير إلى استخدام المؤرخ «معيار التدقيق» المستخدم حاليا في الأساليب الإحصائية للوصول إلى نتائج أكثر دقة.
وهذا الأسلوب يعتمد على توفر عيّنات من الوقائع وإحصاءات وصفية وإجراءات تدقيق تتوافق مع خصائص مجتمع من المجتمعات، لتكون حاصل ذلك التدقيق الإجرائي متوافقا بين العيّنة وخصائص المجتمع، أو المراجعة الاختبارية عن طريق العينات.
ومن نافلة القول أن التركيز على اختبار التوافق من خلال العيّنة قد تطرق له هيجل في رؤيته لفلسفة التاريخ.
لقد استطاع ابن خلدون أن يُؤسس أصولا لعلم المعرفة التاريخية ويكوّن إطارا منهجيا لكتابة هذه المعرفة، وينقله من مجرد وسيلة توثيق إلى معرفة مستقلة قائمة بذاتها.
**__**__**__**__**__**
* مصدر النصوص مقدمة ابن خلدون، عبدالله محمد الدرويش
* فلسفة التاريخ -موسوعة ستانفورد، طريف السليطي