محمد العبدالوهاب
في ذاكرة زملائي بالمدرسة آنذاك الشغوفين بالقراءة المنبثقة من مادة اللغة العربية (النصوص والتعبير والقراءة)، خصوصاً مادة النصوص المليئة بالغذاء الفكري والثقافي والمعرفي.
من خلال ما يكتبه رموز الأدب العربي الذين أثروا الساحة الثقافية والفكرية والشعرية والنقد وبوعي متقدم، أمثال نجيب محفوظ وطه حسين وإحسان عبدالقدوس ونزار قباني وأحمد شوقي... والقائمة تطول.
كان الحلم يراودنا وعبر سنوات مضت أن نشاهد هؤلاء المفكرين على أرض الواقع، بل إنها أمنية كنا على استعداد أن نخاطر بالمستحيل لنراهم ولكن هيهات هيهات في سلطة القرار، إذ كان آباؤنا يملكون وحدهم مصير الأسرة، لا فضاءت شخصية ولا مساحات للفرد الذاتي أو الحكم الخاص للفرد ليحدد خيارته حسب هوايته أو رغباته، لدرجة تلاشت فيها الأحلام بطعم اللقاء للتحول إلى إحباطات مثقلة بالحزن والأسي، لحين جاء الفرج من الله سبحانه، لتصل بنا مرحلة المراهقة العمرية، والتي عادةً ما يصاحبها قلة الوعي لاصطناع الكذب!! لتحقيق أمنياتنا وقررت أنا وأصدقائي بإيهام آبائنا بأننا نريد حضور بطولة كأس الخليج بقطر والتي سيتحدد من خلالها مدى قبولنا في الصحافة ككتاب، بينما كانت الحقيقة هي التوجه لمصر الحبيبة لتحقيق أمنياتنا بمشاهدة هؤلاء الرموز الأدبية. بعد أن أخذنا معلومات مهمة جداً، بأن تلك الرموز الأدبية عادةً ما يتواجدون في المقاهي الثقافية (الفيشاوي وريش وخان الخليلي) وغيرها من مقاهي الحسين وميدان طلعت حرب.
قد لا تتخيلون (غيمة فرح وإبهار) اجتاحتني لمجرد مشاهدتي الأديب الأريب نجيب محفوظ (رحمه الله وغفر له) على أرض الواقع، وكيف كانت البساطة والتواضع الجم هو العنوان الأبرز في شخصيته! كان جالساً على كرسي ران عليه بعض الصدأ، وبيده كوب الشاي الكشري الدافئ، وملابسه كأنها زي رجل للتو أنهى ليّاسة سور! ذلكم هو الحائز على جائزة نوبل العالمية في الأدب.
استقبلني وكأنه يعرفني منذ سنوات خلت، وضمني بحنان الأبوة حينما عرف أني سعودي وجئت إلى هنا لكي أراه بعد قراءة مختصرة عنه في مناهجنا الدراسية وكان حلمي أن أشاهده على الطبيعة.
.. لا أعرف كيف أصف كيف كانت بشاشة روحه وابتسامته المصحوبة بسرعة البديهة التي يتميز بها الشعب المصري العظيم:
وكيف رأيتني؟ هل أستحق أن أكون كاتباً؟!!
فأجبته: أعجبني تواضع الكبار الذي لا يتقنه إلا نجيب محفوظ.
ومن بعدها أيقنت وصدقت بأن (الأدب بحر ما له ساحل!!) وياليت بمن هم حولنا الذين أوهموا أنفسهم بأنهم وصلوا من الأدب لمنتهاه، ترى لازلتم في بحره تتعلمون.
لعلي بهذه المقدمة كلها أريد أن أصل إلى القول: كنت بالأسبوع الماضي في القاهرة وعلى خطى مسيرتي (آنذاك) لميدان الحسين، وبالقرب من مطعم ومقهى نجيب محفوظ (خان الخليلي) أعيد فيه ذكرى لقائي به، وللذكريات صدى السنين، رددت من خلاله بيتاً للشاعرة السعودية شيخة الحكمي:
على رصيف النوى ما زلت أرقَبهمّ
غابوا عن العين لا حسّ ولا خبرُ
شاب الحنينُ وقلبي ما يزالُ بهم
يا زفرة الشّوقِ كم من هاهنا عبروا
أخيراً أقول لم تعد تدهشني مقاهي مصر الثقافية كما كانت من قبل، خصوصاً ما شاهدنا خلال الأعوام السابقة الأربعة حتى اليوم، وبتلك الخطوات المبتكرة التي تعكس رؤية المملكة 2030 العظيمة التي أحدثت حراكاً ثقافياً في المجتمع عبر بوابات المقاهي الثقافية المنتشرة في مناطق وطننا الطاهر، والمنبثقة من الفكرة الرائعة من وزارة الثقافة ممثلة في الشريك الأدبي كتنظيم وإشراف على اللقاءات الأدبية والشعرية وغيرها من الفنون الثقافية، لتكون ولادة الكثير من أعمال الفكرية العظيمة، لتصبح اليوم أسلوب حياتي وسلوكاً اجتماعياً وفكرياً وممارسة حضارية في التعامل والتعاطي مع الآخرين في كل التفاصيل الأدبية، بدليل أن من كان ينتقدها ويعترض على تواجدها لعدم التخصص الثقافي لمالكيها، هاهم اليوم يتحينون الفرصة والدعوة باستضافتهم عبر منصاتها!!
شكراً سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان على توجيهاتكم ودعمكم اللامتناهي، وبمثل ما قال (أيقونة) النقد الأدبي بالوطن العربي أ.د. عبدالله الغذامي خلال إحدى أمسياته في بالمقاهي الثقافية:
شكراً (لعراب الرؤية) الذي أزاح الغطاء الكاتم وأعاد المجتمع إلى حيويته الفطرية.