عبدالله العولقي
تعتبر العلاقة الثنائية المتلازمة بين الموهبة والحسد طبيعية في عالم الحياة البشرية، فالفرد يحبُّ أن يتميز عن أقرانه بسمة غريزية فطرية أو إبداعية مكتسبة يتمتع بها، وفي المقابل هناك أقران له يرفضون هذا التميز لأن نفوسهم ترى أنها أحق بهذا التفوق! فتكون ردة الفعل الطبيعية أن يحاربوا هذا التميز حسداً من عند أنفسهم، هذه المعادلة البشرية موجودة في أصل الغريزة الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، بيد أننا اليوم نتحدث عن هذه الثنائية في ظل البيئة الأدبية وتحديداً مع ثلاث مواهب شعرية في أدبنا العربي عانوا كثيراً من ردة فعل الأقران والحسّاد تجاه عبقريتهم المتقدة، سنلحظ من خلال الأمثلة الشعرية أن الخطاب الموجّه إلى الحسّاد يرتكز على الأنا المعتدة والمكثفة في أسمى صور الفخر والاعتزاز بالذات، وفي المقابل نجدها تتضمن الهجاء المبطن لهؤلاء الذين عجزوا عن الوصول إلى مستوى الموهبة فاستعملوا سلاح الغيرة والحسد، وإذا تحدثنا عن القاسم المشترك بين هؤلاء الأعلام الثلاثة سنجده يرتكز حول العصامية واستغلال الموهبة الشعرية في بناء الذات الأدبية المتعالية رغم الظروف العسيرة التي كابدوها في مسيرتهم الحياتية، بالإضافة إلى معرفتهم الدقيقة بخبايا وأسرار النفس الإنسانية.
إذا تحدثنا عن حالة أبي الطيب المتنبي (915م - 965م) فإن موضوع الحسد لم يكن موضوعاً مجسّداً عن تعمد داخل سياق القصيدة الشعرية، لكن المتنبي هو أول شاعر يفرد لموضوع الحسد أدباً يستحق الدراسة في تجربته الشعرية، فمنذ الشعر الجاهلي والشعراء يتنافسون في إبداع النظم وقد يصل الأمر إلى التهاجي فيما بينهم بالقول، لكن لم نجد أحداً منهم يشتكي من حسد أقرانه ومجتمعه له كما فعل المتنبي:
ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باكٍ منه محسودُ
إذاً فالصورة مختلفة هنا في حالة المتنبي، ويكمن السبب الرئيسي في هذا الاختلاف عند موهبة المتنبي وتميزه الفريد في قول الشعر، فإبداعه الأدبي الرائع جلب له حسّاد زمانه من الشعراء والنقاد وعلماء اللغة على حدٍ سواء، وقصصه في مجلس سيف الدولة تغني عن تكرار الحديث بها هنا، ويكفي أنه قدّم خطاباً جريئاً لسيف الدولة يتهمه أنه وراء هؤلاء الحسّاد:
أزلْ حسد الحُسّاد عني بكبْتهمْ
فأنت الذي صيّرتهمْ ليَ حُسّدا
ورغم أن المتنبي من أكثر الشعراء فهماً ومعرفة لأسرار النفس الإنسانية فقد شخّص الحسد كمرضٍ لا يرجى شفاؤه:
سوى وجعِ الحُسّاد فهو
مرض لا يرجى برؤه
ورغم هذا الوصف النفسي الدقيق إلا إنه لم يكن على استعداد نفسي واجتماعي لفهم تلازمية الموهبة والحسد، لقد كان مغتاظاً من حساده إلى درجة بعيدة، لقد كان عليه أن يهدأ في تعامله معهم ويمضي في إبداعاته وفرائده دون الالتفات إليهم، لكن شخصيته الثائرة القلقة لم تكن على هذا الاستعداد أبداً، فدرجة الذكاء الاجتماعي تنخفض كثيراً عند الشخصية الثائرة ولذا خسر المتنبي الكثير من علاقاته الاجتماعية وكسب عداوات كثيرة كان بإمكانه أن يتجنبها، بل إن إحدى تلك العداوات كانت السبب وراء مقتله!
أما حالة شاعر المهجر إيليا أبو ماضي (1889م - 1957م)، فقد عاش الشاعر في مدينة نيويورك الأمريكية مبدعاً لا يشق له غبار في قول الشعر، وحينها كانت الولايات المتحدة مقصداً لكثير من المهاجرين الشوام المسيحيين، كانت سجيته منفتحة للإبداع الشعري دون تصنعٍ أو تكلفٍ بل كانت الكلمات تنساب مع إنشاده بكل سلاسة ويسر، أما القافية فقد كانت تأتي طواعية لإقفال البيت دون أي قلقٍ أو مواربة بفضل مخزونه اللغوي الكبير الذي استفاده من التثقيف الذاتي وكثرة مطالعاته في كتب اللغة والأدب، وهذه السمات الإبداعية جلبت له الحسّاد من أدباء ومثقفي المهجر في أمريكا، عُرف أبو ماضي بعصاميته واعتداده بنفسه، فعلى الرغم من فقره وقلة تعليمه النظامي إلا أنه استطاع أن يزاحم كبار الأدباء والشعراء في عصره وزمانه بفضل موهبته الأدبية الساحرة، ما يهمنا من سيرته هو كراهيته للحسد ومقته للحساد، وقد عبّر عن ذلك في قصيدته الشهيرة (التينة الحمقاء) حين صور بموهبته الأدبية والنفسية تلك التينة بالحسودة البخيلة، حيث تمثلت القصيدة كما يقول الدكتور محمد سبيل إلى وصف دقيق لحالة نفسية هي الأنانية والحسد وكراهية الخير للآخرين وحصره في حب الذات، وإنه لمرض جد عضال يحتاج إلى تشخيص وتحليل نفسي دقيق انبرى له الشاعر بالتفصيل والتحليل النفسي، وكأنما يضع مريضاً نفسياً في (شيزلونغ) ليستنطقه حول ملابسات مرضه ودوافعه السلوكية، ومن هنا تعترف لنا التينة الحسودة المريضة بمسوغات حسدها للآخرين على ما ينالونه من خير يذهب إليهم رغماً عنها، فهي تلقي ظلاً على الأرض يتفيّأهُ الناس والدواب، وهي تثمر فاكهة فتأكل منها الطيور وأصحاب البستان، كل ذلك لا تريده، لماذا؟، لأنها لا تنال من خيرها شيئاً لنفسها وإنما خيرها يذهب كله للآخرين، حتى جمالها وهي شامخة ومخضرة مثمرة لا تراه فتستمع بمشهدها وإنما يذهب ذلك أيضاً لغيرها:
بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني
عندي الجمال وغيري عنده النظر
وفوق ذلك تضيف أنها ضجرت من كثرة ما يطلب خيرها الآخرون، فكل ذي ظفر وكل ذي جناح يريد أن يأخذ منها وهي لا تنال منهم شيئاً، هذه هي مبرراتها الواهية بل ومبررات كل حسود، وقد وصفها الشاعر بالحمقاء لأنها لا تدرك مغزى الحياة وكذلك الحسود:
وظلت التينة الحمقاء عاريةً
كأنها وتدٌ في الأرض أو حجر
وترتفع عند الشاعر درجة عداوته للحساد الذين يحاربون موهبته الفذة إلى مرحلة تصويرهم بالأعداء، حيث يقول في خطاب فلسفي رائع:
شكراً لأعدائي فلولا عيثهم
لم أدر أنهمو من الغوغاء
ذنبي إلى الحسّاد أني فُقتهم
وتركتهم يتعثرون ورائي
وخطيئتي الكبرى إليهم أنهم
قعدوا، ولم أقعد على الغبراء
عفو المروءة والرجولة أنني
أخطأت حين حسبتهم نظرائي
أما حالة شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي (1909م – 1934م)، فهو موهبة شعرية فطرية عظيمة رغم صغر تجربتها (عاش 26 سنة فقط)، وللقارئ الكريم أن يتخيل أنه منذ نبوغه المبكر في السادسة عشرة من عمره وحتى زمننا الحاضر وهو لا يزال تلك الشجرة التي حجبت الغابة، فشهرته الطاغية داخل تونس قد أغلقت أبواب الشعر أمام المبدعين التونسيين لدرجة أن بعض الشعراء الجدد نادوا بضرورة قتل هذه الأسطورة الحية من أجل إفساح المجال أم المواهب الشعرية، فلا غرو أن يتعرض له منافسوه في حياته محاولين التصدي لهذه الموهبة الشعرية الخارقة، ونظراً لضآلة خبرة الشاعر بالحياة ومرض القلب الذي أرهق صحته وتكالب الظروف المعيشية الصعبة خصوصاً بعد وفاة والده فلم يخص حسّاده وحدهم بخطاب العداوة والكراهية مثل المتنبي وأبي ماضي بل جعله خطاب عام يشمل الجميع، ولذا نجد قاموسه الشعري يضج بكلمات مثل الناس والشعب والعالم وكلها تأتي بصورة هجائية سلبية تمثل حالة تشاؤمية ذاتية من جهة، ومن جهة أخرى هي تمثل رؤيته الخارجية المتضادة والمتصادمة مع المجتمع والتي تمثل علاقة في قمة التناقض التام، هذه الصورة ربما جاءت من بزوغ الموهبة الفذة أمام المجتمع الذي لا يقدر الموهبة، بل يحاربها ويحسده عليها:
مافي وجود الناس من شيءٍ به
يُرضي فؤادي أو يسرُّ ضميري
فإذا استمعتُ حديثَهم ألفيتُه
غثاً، يفيض بركّةٍ وفتور
فإذا سكتُّ تضجروا وإذا نطقت
تذمروا من فكرتي وشعوري
آهٍ من الناس الذين بلوتهم
فقلوتهم في وحشتي وحبوري
ويقول أيضاً:
أيها الشعب ليتني كنت حطّاباً
فأهوي على الجذوع بفأسي
في صباح الحياة ضمّختُ أكوابي
وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك، فأهرقتُ رحيقي
ودُستَ يا شعبُ كأسي
وفي تجربته الشعرية نلحظ أنه اختزل أعداءه الذين يحاربونه من وجهة نظره في اثنين: القدر والحساد، وللحق أن المتتبع لسيرة الشابي القصيرة يستغرب من خروجه المتعدد عن السياق الإيماني الديني رغم أنه ينتمي إلى بيئة دينية فهو من بيت علم وقضاء مشهور في تونس:
وأقول للقدر الذي لا ينثني
عن حرب آمالي بكل بلاء
اهدم فؤادي ما استطعت فإنه
سيكون مثل الصخرة الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا
وضراعة الأطفال والضعفاء
ثم يتحول إلى حساده فيقول عنهم:
وأقول للجمع الذين تجشموا
حولي وودُّوا لو يخرّ بنائي
وغدوا يشبون اللهيب بكل ما
وجدوا ليشووا فوقه أشلائي
إني أقول لهم ووجهي مشرق
وعلى شفاهي بسمة استهزاء
إنّ المعاولَ لا تهدُّ مناكبي
والنار لا تأتي على أعضائي