أ.د.صالح معيض الغامدي
تحضر الإبل في كثير من السير الذاتية السعودية؛ نظراً للارتباط الوثيق بين الإنسان والإبل في الحياة بالمملكة العربية السعودية، على أن هذا الحضور يكون متفاوتاً في كمه وكيفه في هذه السير الذاتية، اعتماداً على طبيعة الحياة التي عاشها كل كاتب ومدى اتصاله بعالم الإبل وشؤونها، فمن عاش طفولته في المدن ليس كمن عاش حياته في القرى والأرياف والبوادي، فالثاني لا شك أنه عاش حياة وثيقة الصلة بالإبل، بل إنها قد شكلت في كثير من الأحيان حياته بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من أن توظيف الإبل في السيرة الذاتية السعودية قد جاء إلى حد كبير في سياق واقعي مرتبط بذات السارد/ البطل؛ لكون السيرة الذاتية معنية بالدرجة الأولى بسرد الحياة الواقعية لصاحبها، إلا أننا لا نعدم بعض الحضور الرمزي للإبل في بعض هذه السير الذاتية.
وقد اخترت في هذه الورقة دراسة حضور الإبل في سيرة مسعد العطوي « التحول» (ط2 عالم الكتب الحديث، عمان، 2014) نموذجاً لعدة أسباب لعل من أهمها التصاق كثير من تجارب السارد بحياة الإبل وشؤونها وحياة من كانوا قريبين منها أيضاً إلى حد كبير، فقد كانت الإبل حاضرة في البيئة البدوية التي عاش فيها البطل؛ مما جعله يستدعيها بالضرورة في مناطق متعددة من سيرته الذاتية، ابتداء من الطفولة وانتهاء بالفترة التي كتبت فيها السيرة.
وعلى الرغم من أن الإبل تُستدعى أو تحضر حقيقية في جميع مراحل حياة كاتبها، فإن حضورها الطاغي مرتبط إلى حد كبير بمرحلة الطفولة والصبا وهي المرحلة المهمة الحاسمة في تشكل الذات عند الكاتب. فلقد نشأ وتربي في بيئة تحتفي بالناقة والجمل احتفاء كبيراً بحيث أنهما يشكلان قطب الرحى في حياة المجتمع الذي عاش فيه الكاتب الى حد كبير، فالإبل رفيقة ذلك المجتمع في حله وترحاله لا ينفصل أبداً عنها، يعطيها من الحب والحنين ما تعطيه من الجود والكرم، والعون، والأمان، والبهجة.
ولعل المنهج المناسب لدراسة الإبل في السيرة الذاتية هو النقد البيئي أو بعض معطياته، وهذه الورقة هي الورقة الثانية التي أدرس فيها السيرة الذاتية السعودية من منظور هذا النقد الذي يعنى بدراسة العلاقة بين سرد المكان وسرد الذات، فلقد سبق أن قدمت قراءة لسيرة معجب الزهراني سيرة الوقت، الوقت من منظور النقد البيئي، وقد اقتصرت في هذه الدراسة على بعد واحد من أبعاد البيئة في سيرة العطوي وهو الحيوان وتحديداً الإبل وعلاقة الكاتب بها.
وإذا ما حاولنا حصر سياقات حضور الإبل في هذه السيرة فسنجد أنها تحضر في عدة سياقات متنوعة لعل من أهمها: سياق الغذاء والدواء، وسياق الركوب والزينة، وسياق العادات والتقاليد، وسياق التحول الحضاري، والسياق اللغوي. وعلى الرغم من أن كل السياقات التي حضرت فيها الإبل في هذه السيرة الذاتية مرتبطة إلى حد كبير بالحضور الواقعي في حياة كاتبها، إلا أن الحضور الحضاري واللغوي بدا لنا حضوراً يحمل في طياته بعض الدلالات الرمزية إلى حد كبير كما سنرى، وسأستعرض أبعاد هذا الحضور في كل سياق في المقال القادم إن شاء الله.