أ.د. محمد خير محمود البقاعي
إن الجزيرة العربية أرض مسالك وممالك، أرض عبادات وقادة، أرض رخاء وضيق، أرض مياه وجفاف، أرض خصب وقحط؛ ولكنها في كل أحوالها أرض إنسان تنطبق عليه التسمية في كل أوضاعه. إنها أرض عقائد شغلت البشرية منذ أن وطأت أقدام آدم وحواء وأبنائهما الأرض، وبدأ تأسيس الممالك والملكيات، ومنذ أن بدأ البشر في فرض رغباتهم وطموحاتهم على من يحيطون بهم؛ إنها شبه الجزيرة العربية أيها السادة، التي دشن إبراهيم عليه السلام تاريخها التوحيدي في المفهوم الإسلامي عندما انتقلت من الوثنية إلى التوحيد. توالت التجمعات البشرية، والإدارات، والأمراء، والملوك. وجاءت الولادة الأولى للدولة السعودية في مراحلها الثلاث في سياق التطور الطبيعي لمشاعر التطلع إلى دولة قوية تحفظ المقدسات وتصون الكرامات. منذ أن تولى إمارة الدرعية التي أنشأها آل درع تيمناً بدرعيتهم في الأحساء قبل ما يزيد عن 300 سنة من الآمال والآلام حتى منَّ الله على هذه البلاد بما وصلت إليه اليوم، مسطرة تاريخ مآثر ومفاخر حتى في الأوقات العصيبة لمسار التكوين والتمكين.
إن المنصف ممن يتأمل تاريخ هذه الدولة لا يملك إلا أن يبدي إعجابه إن كان دارساً أجنبياً، أو الافتخار والولاء إن كان مواطناً. وأود في محطات هذا المسار إعادة النظر في بعض التسميات والمصطلحات التي تواضع عليها من كتبوا عن تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث وصولاً إلى سعودية الرؤية.
أول ما أقف عنده مسألة قيام الدولة السعودية الأولى التي احتكرت بعض الآراء مسألة قيامها بأن ركزت على جانب واحد تولت نشره والترويج له، كتب تضمنت تاريخاً انفرد به متحمسون لا يمكن أن يشكك أحد في انتمائهم أو إخلاصهم للعقيدة وأهلها وبلادها، والثناء على ولاة أمرها ضمن منظور سميته في كتاباتي: «منطق الدعوة». وقالوا إن كل ما أنجزته الدولة منذ أن استقبلت إمارة الدرعية القوية بقيادة الإمام محمد بن سعود بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي الدرعي الحنفي (1090-1179هـ/1679-1765م).
وعندما يكون أمام المؤرِّخين أحداث ينبغي تأطيرها فإنهم يلجؤون في بعض الأحيان إلى السهل الشائع سعياً إلى السيرورة والحمل على المألوف.
وهذا ما حصل في كتابة تاريخ الدولة السعودية الأولى والحملات عليها بعد أن اشتد عودها وبسطت سيطرتها على الجزيرة وعلى بعض الشام والعراق واليمن.
لقد استقر في أذهان الغربيين أن الدولة السعودية الأولى التي بلغت أقصى اتساع لها في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد آل سعود (سعود الكبير الثاني) (1161- 1229هـ، 1748- 1814م)،أصبحت بعد إشرافها على الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة تشكِّل خطراً على مصالحهم التي يضمنها الوجود العثماني الضعيف فأقنعوا العثمانيين بعدد من الإغراءات كان أهمها تنصيب محمد علي باشا (1183-1265هـ/1769-1881م) وكانت ولايته على مصر من 1220-1264هـ/1805–1849م)، وتولى ابنه إبراهيم باشا مدة قصيرة في عام 1264هـ/1848م) توفي بعدها. وكان النفوذ الفرنسي في دولة محمد علي واضحاً في جوانب الحياة كلها وكأنما عاد معه نابليون إليها. ويشهد على ذلك سيل الكتب الفرنسية التي كتبها مؤرِّخون ودبلوماسيون وجواسيس عن مصر في عهد محمد علي. وهو أمر ينبغي الإشارة إليه عند التأريخ لحملاته العسكرية والحملة على الدولة السعودية الأولى على وجه الخصوص.
وما لم يكتشفه من أرَّخوا لما سموه: «الحملة المصرية على الدرعية» أو «حملة إبراهيم باشا على الدرعية» أو «الحملة العثمانية» بين عامي 1816م- 1818م. ووجه الصواب في كل ذلك أن تُسمى»الحملة على الدولة السعودية الأولى» وعلى عاصمتها الدرعية. إن كل تلك التسميات تعود إلى أن الدولة السعودية التي انضم إليها الحجاز (مكة المكرمة والمدينة النبوية على وجه الخصوص) ولو سُميت الحملة بغير ما اتفقت عليه الدولة العثمانية مع الغرب عموماً لعدت حرباً صليبية جديدة، ولقام العالم الإسلامي بقضه وقضيضه دفاعاً عن المقدسات؛ لذلك ارتدت الحملة ثوب الحملة المصرية أو العثمانية، بل إنها نسبت إلى طوسون باشا ثم إبراهيم باشا أو محمد علي باشا. وتفصيل ذلك أن أربع حملات عن طريق ولاة الدولة العثمانية في العراق والشام ومصر لم تفلح في النيل من استقلال الدولة السعودية الأولى ومناعة أرضها وشعبها.
لقد تجاوز كل الذين كتبوا عن ذلك هذا كله، ووقفوا عند الحملة الخامسة التي يسمونها تجاوزاً حملة إبراهيم باشا بعد فشل حملة طوسون ومن سبقه. فما السر؟ إن ما يُسمى حملة إبراهيم باشا هي في الحقيقة حملة غربية على الدولة السعودية الأولى وتكاد المصادر الفرنسية وغيرها تجمع على ذلك. استنفرت فرنسا ضباطاً ومرتزقة فرنسيين وأوروبيين، أشبههم اليوم بفاغنر، قادوا الحملة بتقنيات وخطط عسكرية لم يكن للسعوديين عهد بها، وهو ما جعل الكفة تميل إليهم؛ أولئك الفرنسيون والأوربيون استأجرهم محمد علي، وأسند إليهم قيادة الحملة فعلياً: فما الجديد الذي توافر للحملة الخامسة ولم يكن للحملات الأخرى؟ إنها الخرائط والكتب والتقارير التي كتبها الأوروبيون، والفرنسيون منهم على وجه الخصوص عن كل شؤون الدولة وأئمتها، والحياة الاجتماعية والدينية حتى يمكن القول إنهم استقصوا كل ما يرتبط بها وبأئمتها وشعبها مما سيتضح من خلال ما سنعرضه عن الوجود الفرنسي في الحراك الدبلوماسي والاستخباراتي لما كانت تعيشه الدولة السعودية الأولى إبان ازدهار الحياة الأمنية والدينية والاقتصادية.
أول ما كتبه الفرنسيون عن الدولة السعودية الأولى هو تقارير مجموعة من الدبلوماسيين والرحالة والجواسيس الذين سلكوا كل الطرق للحصول على معلومات عن البلاد وجغرافيتها والشعب وعاداته وتقاليده ومعتقداته والحكام نسباً وحضوراً في وجدان الشعوب، وهذا وجدناه في كتب تحدثت مثلاً عن عقيدة الحكام والشعب لاعتقادهم بأن منطق الدعوة هو الذي يسير تلك الدولة كما أقنعتهم الدولة العثمانية التي اخترعت اسم «الوهابيين» وتحدثت عن تشددهم لاستعادة الموارد المالية والشرعية المتوهمة بالسيطرة على الأماكن المقدسة. لمس الأوروبيون هذا الشره المتنامي لترميم سلطتهم على الحجاز والجزيرة، حتى لو كان ذلك على يد ضباط ودبلوماسيين وجواسيس أوروبيين تغلب عليهم الجنسية الفرنسية.
إن القيادة الحقيقية للحملة التي هدمت الدرعية ومناطق أخرى كثيرة في نجد كانت للفرنسيين وأشهرهم ممن لا يذكر إلا بلقبه Lecapitaine =Vaissière الكابتن فيسيير الذي تسكت عنه المصادر خلا بعض الإشارات؛ لقد كان القائد الحقيقي للحملة وبرفقته ضباط آخرون هم الذين خططوا وحاصروا وقصفوا فمن هو فيسيير؟
سيأتي الحديث عنه في سياق هذه الشذرات، وعن دوره في الحملة على الدولة السعودية.
ولكنني أبدأ هنا بما حدث في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد (1133-1218هـ/1721-1803م) رحمه الله بعد أن اغتالت والده اليد الآثمة الحاقدة. فما الذي حدث؟
وأبدأ هنا بما ذكرتني به مقالة محمد الفيصل بعنوان: »اهتمام الغربيين بخارطة الدرعية»، الاثنين 22 مايو 2017 م.
فتذكرت حينئذ أنني كنت على الدوام أعجب من استفاضة من سماها القنصل الفرنسي في حلب جان باتيست روسو؛ الذي يعرف باسم روسو الابن، «خطيب» الإمام سعود الكبير بن عبدالعزيز الأول، وأريحيته في بذل المعلومات لروسو الذي كان يدرجها في تقاريره التي يرسلها إلى وزارة الخارجية الفرنسية؛ شأنه شأن القناصل الآخرين والجواسيس من رحالة ومكتشفين. لقد رسم روسو أول خريطة للدرعية 1808م/1223هـ، وعليها المداخل والمخارج والأودية والمرتفعات، فضلاً عن تصريحه بأسماء المناطق الخاضعة للدولة السعودية الأولى. وقد أدرج كل ذلك في تقارير هي الحالة الأولى التي أرسلها إلى وزارة الخارجية الفرنسية. ونشر نسخة أولية من تلك التقارير أ. د. محمد آل زلفة في بحثه المنشور في مجلة «الدرعية» مج 1، ع 1، 1417هـ/1998م، ص 145-170 بعنوان: «الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام سعود الكبير 1218-1229هـ/1803 - 1814م: العاصمة والحكومة والسكان، كما وردت في تقارير جوزيف روسو القنصل الفرنسي في حلب». فضلاً عمّا سبقه من تقارير جان ريمون، ولويس ألكسندر أوليفيه دوكورانسيه (1770-1832م). وقد أفصح روسو عن المخططات التي نرى أنها كانت معلومات للقضاء على الدولة السعودية الأولى في مهدها؛ كما يقول في كتابه «التذكرة في الطوائف الإسلامية الثلاث» الذي نشر في عام (1818م)
Sur les trois plus fameuses sectes du Musulmanisme, les Wahabis, les Nosairis et les Ismaélis, par M.R, Correspondant de l›Institut Royal et Associé de l’Académie des Science, Belles-Lettres et Arts de Marseille, A Paris chez A.Nepveu, Libraire, passage des Panoramas No 26.Et à Marseille Chez MASVERT, libraire, sur le Port,1818
وكان هذا الكتاب الحالة الأخيرة من تأليفه في هذا المجال، وهي حالة بينت لنا كثيراً من الأمور التي كانت خافية؛ فقد تحدث روسو عن خطة للقضاء على الدولة، وهو ما ذكره قبله جان ريمون، ونجد تفصيله في الكتاب الذي نشرته الدارة بترجمتنا ومراجعة شيخنا أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري «التذكرة في أصل الوهابيين ودولتهم»، بل إن ريمون يقول في الصفحة 101: إنه كتب مذكرة عن هذا الموضوع في عام 1805م خلال إقامته في حلب بناءً على طلب من السيد روسو الابن. وذكر روسو في الصفحة 27 كتاباً سماه: «مختصر تاريخي عن أصل الوهابية وغزوات الشيخ محمد وابن سعود وعبدالعزيز وسعود حتى عام 1224هـ/1810م». وقال: حررناه اعتماداً على مخطوطة أصلية وصلت إلينا من الدرعية نفسها ومؤلفها الشيخ سليمان النجدي.
إذن، مؤلف الكتاب هو من يسميه روسو سليمان النجدي ومما زاد في ثقتنا أن الكتاب هو المقصود عدا عن اتفاق النصوص بين روسو والكتاب المذكور اتفاق الملاحظة بين الدكتور عبدالله الصالح العثيمين رحمه الله محقق الكتاب وروسو الذي يقول في الصفحة 32 من كتابه: «لما كان مؤلف المخطوطة قد أهمل كلياً التأريخ للأحداث التي يوردها، ولما كان تدارك مثل هذا يصبح أكثر صعوبة كلما تقدمنا في التحرير فإننا، ولكي لا تختلط الأمور في مجموعة الأحداث التي يوردها متفرقة دون اعتماد على أي تسلسل تاريخي سنعمد إلى متابعته خطوة خطوة في سرد الغزوات اللاحقة لسعود وقادته». انظر ملاحظات الدكتور العثيمين في مقدمة نشرته للكتاب.
بل إن روسو ترجم كتاب سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب النجدي (عام 1200هـ/1786م- 1233هـ/1818م)، وهو الذي ذكر اسم مؤلفه ونشره في كتابه وكنت أول من أشار إلى ذلك في عام 2006م/1426هـ، العدد 12169 في مقالة بعنوان: «المصادر الفرنسية تبوح بأسرارها»، في صفحة وراق الجزيرة. ثم تلاه بحث بعنوان: «من مؤلف كتاب كيف كان ظهور محمد بن عبدالوهاب؟» في مجلة دارة الملك عبدالعزيز، العدد 3 - مج 33، 1428هـ/2017م ونشر في كتابي: «أمشاج تاريخيّة»،جداول 2020 م. وبينت حينئذ أن جان باتيست لويس جاك روسو ترجم الكتاب إلى الفرنسية ونسبه إلى من سماه سليمان النجدي ولم أعرفه حينئذ وقد أخبرني الصديق الفرنسي الباحث في تاريخ جدة والدولة السعودية الأولى الدكتور والمؤرّخ والدبلوماسي لويس بلان أن المقصود هو سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد الشيخ الذي كان من أفاضل العلماء في التفسير والفقه ويعرف بسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب المُشرَّفي،الوهبي، التميمي، النجدي موطنًا، الحنبلي مذهبًا، السلفي عقيدةً ومنهجًا.
وهو فقيه وعالم بعلم الرجال ومفسر ولد في الدرعية عام1200 ه/1786م. كانت وفاته في سنة 1233 هـ/1818م. عندما أحضره إبراهيم محمد علي باشا بعد أن وشى به «بغداديٌّ، فأحضره الباشا بين يديه وجاء بالملاهي وأدوات الطرب والخمر لإغاظته، ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر الجند أن يطلقوا عليه رصاص بنادقهم دفعة واحدة، فأطلقوه عليه فمزق جسمه رحمه الله. وذكر نسبة الكتاب إليه الباحث الإيطالي جيوفاني بوناسينا
Giovanni Bonacina 2015. في كتابه بالإنجليزية The Wahhabis seen through European eyes. (1772- 1830)deists and Puritans of Islam. «الوهابية في عيون الأوربيين (1772-1830) التوحيد وصلابة المعتقد في الإسلام 2015م»، وبذلك اكتملت هوية الكتاب الذي كان نشره الأستاذ الدكتور عبدالله العثيمين رحمه الله ونسبه إلى مؤلف مجهول كما سبق ذكره في هذه الشذرات. ولنا لقاء.