د.حسن مشهور
في لقاء جمعني مؤخرًا في فعالية ثقافية مع أحد الأدباء، وجه فيها سؤلاً لي تمحور حول المقاهي الثقافية، وهل استطاع المقهى الثقافي كفكرة وجودية أن يشكل بديلاً ومكونًا معرفيًا جيدًا لصناعة الثقافة. حقيقةً كان السؤال يشكّل تحديًا للعقل الذي يؤمن بأن الدراسة العلمية هي الأجدر أن نتكئ عليها إذا ما رغبنا في الوصول لإجابات منطقية، في حين إن الرأي الشخصي يمثّل نزعة فردية قد تشوبها جملة من المؤثرات التي تكون قد علقت بصاحب الرأي جراء تحولات أو تفاعلات له مع الجهة التي يطلب منه إبداء رأيه بشأنها.
لكن لو تعاطيت مع الأمر من منظور شخصي، أي ما أراه وما يجول في عقلي، فحقيقةً، لقد طال المشهد الثقافي في الداخل السعودي خلال السنوات الأخيرة تحول ثقافي كبير، تمثّل في تعزيز الحراك الأدبي والفني بمختلف أشكاله. ومن بين الظواهر البارزة التي لعبت دورًا محوريًا في هذا التحول، ظهرت المقاهي الثقافية كمساحات تجمع بين المثقفين والكتاب والفنانين، بحيث أنها قد أسهمت بشكل كبير في تنشيط الحراك الثقافي والأدبي السعودي وإحداث حالة من التفاعلية فيه. بحيث أن هذه الأماكن لم تعد مجرد مقاهٍ لتناول القهوة، بل أصبحت منصات للإبداع والتفاعل الثقافي.
فالمقاهي الثقافية تعد (مرحليًا)، فضاءً حيويًا يجمع بين مختلف أطياف المجتمع الثقافي، حيث يلتقي الأدباء، والشعراء، والروائيون، والنقاد لتبادل الأفكار والنقاشات. بعبارة أخرى إن هذه المقاهي الثقافية قد أسهمت هذه المقاهي في خلق مجتمع ثقافي متكامل، أتاح للشباب فرصة لقاء كتاب وأدباء متمرسين، الأمر الذي يساعدهم على تحسين مهاراتهم وصقل إبداعاتهم. كذلك قد قدمت لنا هذه المقاهي الثقافية بيئة خصبة للنقاشات النقدية البناءة التي تسهم في تطوير الإنتاج الأدبي.
هذا إلى جانب أنها قد لعبت دورًا محوريًا في استضافة الفعاليات الأدبية، كعمليات توقيع الكتب، والأمسيات الشعرية، والندوات الثقافية. ومجمل هذه الفعاليات لم تكن مجرد تجمعات، بل كانت أدوات فعالة في ترويج الأدب السعودي وساعدت على تسليط الضوء على الأعمال الأدبية السعودية الجديدة وإبراز الكتاب والروائيين المحليين.
والأجمل من ذلك إن هذه المقاهي قد سعت لتكريس بعدين مهمين، يتمثلان في تعزيز القراءة من خلال نوادي القراءة التي تنظمها بعض المقاهي الثقافية، والتي تم فيها تشجيع الشباب على قراءة الأدب السعودي ومناقشته. ودعم الأدب النسائي إذ قد شهدت هذه المقاهي الثقافية حضورًا قويًا للكاتبات السعوديات، بحيث قد غدت تمثل منصات لدعم الأدب النسائي وإبراز دور المرأة في المشهد الأدبي. وبفضل هذه المساحات، فقد تمكنت الكاتبات السعوديات من عرض أعمالهن ومناقشتها، سواء من خلال أمسيات أدبية أو حلقات نقاشية. ولو أخذنا بُعْد التفاعل مع الجمهور وعمليات تلقي ملاحظات وآراء القراء مباشرة، فسنعي جيدًا بأنه قد صار لدى هؤلاء الأديبات ما يعزِّز من تجربتهن الأدبية ويزودهن بتغذية مرتدى تمكنهن من تجويد نتاجهن الأدبي والثقافي على عمومه.
وهذا الأمر ينسحب على صغار السن ممن يحمل الموهبة الأدبية، أو ممن يحمل موهبة ولم يكشف النقاب عنها بعد، بحيث إن هذه المقاهي الثقافية قد وفرت لهم بيئة تفاعلية حقيقية تجمعهم مع القارئ المستهدف. ومن هنا فلم يعد الكاتب شخصًا منعزلاً يعمل في منعزله، بل أصبح جزءًا من مجتمع أدبي نابض بالحياة. وهذا التواصل ساعد في إثراء التجربة الكتابية من خلال فهم الكاتب لاحتياجات وتطلعات جمهوره، ومن ثم استطاع تقديم نفسه لهذا الجمهور وفق المُتَطلَع إليه.
إن انتشار المقاهي الثقافية في مختلف مناطق المملكة، وبروز أسماء عدة منها كمراكز للحراك الأدبي، أمثال مقهى أماسي الثقافي في جدة الذي استضاف العديد من الأمسيات الأدبية ولقاءات الكتّاب. ومقهى الحوار في الرياض الذي اشتهر بتنظيمه ندوات فكرية وأدبية نوعية. ومقهى قهوة وثقافة في الدمام الذي جمع بين القراءة والفن التشكيلي، الأمر الذي وفر بيئة إبداعية متعددة الأبعاد. مجمل ذلك قد زودنا بمؤشرات على نجاح هذه المقاهي على القيام بما كان مخططًا لها أن تقوم به بشكل جيد.
وفي تقديري أن بقاء هذه المقاهي واستمراريتها في تقديم رسالتها سيكون رهنًا بتجاوزها لجملة من التحديات هي على التوالي؛ محدودية الدعم المالي، فهذه المقاهي تحتاج إلى مصادر تمويل مستدامة لضمان استمرار فعالياتها، فالمال في زمننا الراهن هو عصب الحياة لأي مؤسسة ثقافية منتجة. هذا إلى جانب محدودية الوعي الثقافي لدور هذه المقاهي الفاعل، إذ لا يزال بعض أفراد المجتمع ينظر إلى المقاهي الثقافية كأماكن ترفيهية بحتة دون إدراك لدورها الأدبي. وهناك تحدٍ آخر لكنه يتسم بالمحدودية وأعني به التوجه التجاري، المتمثل في إن بعض المقاهي قد ركزت على الجانب التجاري أكثر من الجانب الثقافي.
وختامًا، فتجربة المقاهي الثقافية التي وصفتها في مقالتي هذه بعالية «بالفضاء الحيوي المرحلي»، إلى حينه تعد تجربة جميلة ولها وقع نوعي وإن كانت قد سبقتنا لها دول عربية عدة في خمسينات وستينات القرن الميلادي المنصرم، إلا أننا بحاجة للتفكير المستقبلي في تأسيس مراكز ثقافية نوعية تعمل على مختلف أنواعيات الثقافة ابتداءً بالحرف وانتهاءً بالموسيقى والموروث الثقافي المناطقي، كي نحقق التكاملية الثقافية لمختلف الأجناس الأدبية والثقافية في الداخل السعودي.