د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تتنافس القوى العالمية للسيطرة على الذكاء الاصطناعي، ولا يزال يهيمن عدد قليل من اللاعبين الرئيسيين مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، لأنها ترى أهمية الذكاء الاصطناعي في النمو الاقتصادي، القوة العسكرية، والنفوذ العالمي.
تعتبر الولايات المتحدة موطن عمالقة التكنولوجيا مثل جوجل، مايكروسوفت، وغيرها تقود الولايات المتحدة في الابتكار والبحث في الذكاء الاصطناعي، تسلقت الصين بسرعة مراتب التطور في الذكاء الاصطناعي، واهتمت بشركات التكنولوجيا الصينية مثل بايدو، علي بابا، وتينسنت، وغيرها، فيما تميز الاتحاد الأوروبي بالتركيز على المعايير التنظيمية، لكن ربما ليس نشطا بالقدر نفسه من حيث الاستثمار، وهو ما يعلل أحد أسباب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها ألمانيا، بسبب أنها ليس لديها شركات تكنولوجيا كما في الولايات المتحدة والصين، رغم 47 من علمائها حاصلون على جائزة نوبل، ورواد مكانيكا الكم التي وصلتهم إلى اختراقين مهمين وقتها القنبلة النووية وأشباه الموصلات، لكن المفارقة العجيبة التي لم تحافظ ألمانيا على تفوقها بسبب أنها لم تتمكن من التعامل مع الارهاب التكنولوجي.
في 1997 تم افتتاح سوق بورصة مير نسخة من بورصة ناسداك بسبب حلم الثراء السريع حتى أصبحت القيمة السوقية ل229 شركة 234 مليار يورو في مارس 2000 أي سوقا متضخما في 15 مارس 2000 انهار السوق حتى وصل الانهيار نحو 97 في المائة في أكتوبر 2000 كانت النسخة الألمانية من فقاعة الدت كوم في أمريكا في نفس القطاع وفي نفس الوقت لكن ألمانيا توقف السوق لديها، لكن أمريكا لم تتوقف عن مواصلة الطريق وظهرت شركات جديدة مثل الأمازون وقوقل والفيس بوك وغيرها.
فعند زيارة ميركل الصين عام 2018 وجدت الصين متقدمة جدا في الذكاء الاصطناعي، وأن ألمانيا بعيدة جدا عن الصين، وعندما عادت ميركل إلى ألمانيا جمعت أكثر من 30 خبيرا في هذا المجال، وأرادت مقارنة ألمانيا بالصين فوجدت أن ألمانيا متخلفة كثيرا عن الصين والولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي، ووضعت استثمارات بنحو 3 مليارات حتى 2025 ثم رفعته إلى 5 مليارات، لم يصرف منها سوى مليار واحد، فيما ركزت ألمانيا على الاهتمام بصناعاتها التقليدية وعلى رأسها الصناعات الثقيلة وصناعة السيارات، لكنها وجدت فيما بعد أنها بدأت تتأثر صناعاتها التقليدية بسبب أنها بعيدة عن الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي، وبشكل خاص تواضع البنية التحتية في الانترنت والاتصالات مقارنة مع الاخرين، فيما الشركات بحاجة إلى سرعات عالية تتم تغطيتها بكابلات الفايبر الضوئية، حيث الآلات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي لرفع الإنتاجية، بعدما اعتمدت ألمانيا على الطفرة الاقتصادية وحققت معجزة اقتصادية أطالت عمرها التاريخي في صناعاتها التي تتفوق فيها لكنها بدأت تتآكل.
رغم تمتع ألمانيا بأبحاث جيدة في الذكاء الاصطناعي لكن أصحاب العقول تهرب من ألمانيا، ففي 1991 استطاع يورغن شميدهوبر من معالجة خورازميات فتح الباب للذكاء الاصطناعي، لكن خسرت ألمانيا هذه العقلية في الانتقال إلى سويسر والآن تم استقطابه في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا، ولم تحصل ألمانيا على أوراق علمية في البحث العلمي عام 2022 سوى فقط على 4 أوراق مقابل 68 للولايات المتحدة، و27 للصين ونحو 16 لبريطانيا، وأيضا لم تحصل ألمانيا سوى على 6 في المائة من براءات الاختراع في الذكاء الاصطناعي، بينما تسيطر الولايات المتحدة والصين على أكثر من 50 في المائة من إجمالي براءات الاختراع، وإذا أرادت ألمانيا الخروج من الانهيار، وأن تنافس الولايات المتحدة والصين هي بحاجة إلى استثمار أكثر من تريليون يورو في البنية التحتية إلى الابتكار هي بذلك تدفع ثمن التأخر، في ظل فرض أميركا قيودا جديدة على تكنولوجيا الذكاء الصناعي خصوصا حول استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات محاكاة نووية وتطوير أسلحة بيولوجية.
بالطبع السعودية كواحدة من أكبر عشرين اقتصادا في العالم، كما تعكس ريادتها في قيادة التحول الصناعي والتعديني عالميا، حيث تواصل جهودها في تحقيق تطلعاتها نحو الريادة العالمية كجزء من رؤيتها 2030 التي تعمل على مواكبة التحولات التي غيرت المشهد التنافسي العالمي، جعلها تحقق مراكز متقدمة في المؤشرات العالمية ومنها المركز الأول عالميا في مؤشر الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، وحققت المركز ال14 عالميا والأولى عربيا في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي المعتمد من منظمة الأمم المتحدة، وتنامت استثمارات الذكاء الاصطناعي في السعودية بمعدلات مرتفعة وصل النمو السنوي في الانفاق الحكومي على التقنيات الناشئة متضمنة الذكاء الاصطناعي إلى 59 في المائة، وذلك بين أعوام 2019 - 2023، ومن المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، وأن ينمو القطاع بمعدل 29 في المائة سنويا.
تساهم البيانات والذكاء الاصطناعي في تحقيق رؤية السعودية 2030 وذلك لارتباط 66 هدفا من أهداف الرؤية المباشرة وغير المباشرة بالبيانات والذكاء الاصطناعي من أصل 96 هدفا، وتعد نيوم واحدة من أهم المشروعات الرئيسية ضمن رؤية السعودية، وواحدة من أكبر المشاريع العملاقة في العالم لبناء مدينة ذكية من الصفر، التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي لتسخيره في خدمة الإنسان، وتوظيفه في بناء مدن ذكية إدراكية، وتسعى إلى تقديم نموذج عالمي فريد يحقق الاستدامة تتناغم مع الطبيعة بالاعتماد على التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي، حيث تتعاون نيوم مع أوراكل ونيفيديا لتعزيز اعتماد الذكاء الاصطناعي وتمكين الابتكار في نيوم كوجهة إقليمية لحلول الذكاء الاصطناعي، فضلا عن دعم رؤية السعودية 2030 وتحقيق التطور في الحلول السحابية في السعودية، لترسيخ مكانة السعودية كمركز عالمي للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا