د.نادية هناوي
يعد سرد الحيوان حقلاً معرفياً مستجداً، وما يشجع على دراسته المكانة الخاصة التي احتلها في تاريخ الآداب القديمة والحديثة، وبتحديدات فنية معينة. ولقد تدرج سرد الحيوان وأساليب التعبير الرمزي عنه مع التطور الحضاري للبشر، فكان الحكي الشفاهي الخرافي والأسطوري أقدمها. وفيها الحيوان مصدر اطمئنان ومنفعة مادية أو نفسية إزاء ما يساور الإنسان من ظنون ومخاوف، منها تشكل وعيه الجمعي متخذاً من الحيوان دريئة، بها يحمي نفسه ويكون في مأمن من قوى الطبيعة والأرواح الشريرة. وأغلب المعتقدات الميثولوجية تدور حول فكرة البقاء على قيد الحياة، وما له علاقة بالولادة والنمو والموت والبعث والخلود. وبهذا الشكل ارتهن الموقف الألوهي أو اللاهوتي بالخرافات والأساطير، وكلما واجه البشر تحديات وغدا وجودهم مهدداً، تُستحث في دواخلهم تلك الأساطير فتظهر على الواجهة الحياتية. ولقد تجسد ذلك كله في شكل رسومات ومنحوتات، فيها يمتلك الإنسان صفات الحيوان بوصفه ملكاً، يصرع كل الأنواع البرية والمفترسة أو يروضها للانتفاع منها في أغراضه المختلفة.
ولقد صوَّر المتخيل السردي الحيوان في هيأة عدو غادر، له قوى خفية مدمرة وخارقة، تجعل منه مصدرا للمخاوف وسبباً مهماً في إشاعة الشرور وتنازع البشر فيما بينهم. والغاية أن يتعلّم الإنسان من الحيوان دروس الحياة؛ فيعرف كيف يواجه المفاجآت ويجابه التحديات. وتعد الأفعى أول كائن حيواني سبّب للإنسان الشر وأوقعه في الخطيئة، ففي قصة خلق آدم ساعدت الأفعى الشيطان وأغرت حواء بالاقتراب من شجرة المعرفة، ولذلك جعلها الله تزحف على بطنها وتأكل التراب. والأفعى سرقت عشبة الخلود من جلجامش وجعلته يندم على رحلته فتعلم من ثم الدرس الأخلاقي البليغ حول الحياة والموت.
وتتفاوت مكانة الحيوان بحسب ما يحققه من منافع روحية، وما يدور حوله من خرافات؛ فللحصان مثلاً دور إيجابي في أغلب المرويات التراثية، وفي ملحمة الإلياذة يكون لجماله وزهوه وحيويته دور في ما حققه هكتور من انتصارات باهرة. وهناك حيوانات ليست لها أهمية سردية مع أن لها دوراً إيجابياً في حياة البشر؛ كما في الحكاية البابلية عن ثعبان ونسر عقدا عهداً بينهما أمام إله العدل شمش بأن لا يعتدي أحدهما على الآخر وأن يتعاونا سوية لتربية صغارهما. واستمرت العلاقة وطيدة بين الاثنين إلى أن جاء ذلك اليوم الذي نظر فيه النسر إلى صغاره فرآهم قد كبروا واكتمل ريشهم وعندئذ بدأت نفسه تسوّل له أن ينقض العهد.
ودارت حول الثور حكايات، سُخرت فيها قواه لصالح البشر كما في حكاية مينوتور اليونانية، وملخصها أن إله البحر بوسايدون قام بتقديم ثور جميل هدية للملك مينوس وقصده أن يغوي زوجة الملك، وتقع بالفعل في حب الثور، وتلد منه مخلوقاً يتمتع بقوة خارقة برأس ثور وجسد إنسان هو مينوتور.
ومن حكايات شعوب أمريكا الشمالية التي فيها الحيوان مسخر لخدمة البشر حكاية القندس الذي سرق النار، وفيها أن النار كانت في السماء، والحيوانات ترتعد من البرد وتتناول غذاءها نيئا؛ فقال النسر: دعونا نصعد هناك لنأتي بها. وعقدت الحيوانات اجتماعا، وقررت أن يصعد بعض منها ولكنهم فشلوا، فقرر النسر أن يقوم القندس بالصعود وكان يسبح في النهر فتظاهر بأنه ميت. وحاول النسر أن يسلخ فروه فرآه رجل من أهل السماء، أتى بالقوس والسهام وحمل القندس إلى منزله وكانت النار محفوظة هناك، وحين همّ الرجل بسلخ جلد القندس انطلقت فجأة صيحة شديدة في الخارج فخرج ليرى ما يحدث وفي هذه الإثناء قفز القندس وسحب جلده وأعاده إلى موضعه وبحث عن النار وأخذ بعضا منها وخزنها في الأشجار. ومنذ ذلك الوقت والإنسان متى ما شاء حصل على النار من خشب الأشجار.
وقد يتضرر الحيوان من جراء هذا التسخير لخدمة البشر، فتنتهك حقوقه ويناله الحيف بعادات اجتماعية معينة أو قوانين حياتية تزدريه وتمتهن ذاته وتشوهها بأنانية ووحشية. وهذا ما يجعل الحيوان ضحية لحيوان أقوى منه أو لإنسان يوظفه لمنفعته. وهو ما يتجلى في قصص عصر الفروسية مثل حكايات كانتربري وفيها تتمركز شخصية الفارس المهيب، وهو يمتطي صهوة جواده ويخوض المعارك، وهمه الإخلاص لقيمه النبيلة. أما ما يتعرض له حصانه من مخاطر أو متاعب فغير مهم؛ إنما المهم أن يكون الحصان أصيلاً غير لعوب، بني اللون كثمر العناب، مسرجاً بأحسن السروج وأثقل الدروع على وفق قواعد صارمة.
ويكثر توظيف الأفعى في حكايات ألف ليلة وليلة، وبعض من تلك الحكايات مستلهمة من ملحمة جلجامش ومنها حكاية (حاسب كريم الدين) وفيها يمرُّ حاسب بعدد من المغامرات ويلتقي ملكة الحيات، فتروي له قصة بلوقيا وبحثه عن ماء الحياة. وتحاول من ثم أن تغري حاسب بقصد أن تورطه، فتوهمه بأنها تدله على العشب السحري وإذا بها تقيده أسيرا عندها.
وعلى الرغم مما في سرد الحيوان من دروس كتبت من أجل الملوك والحكام بقصد تهذيب طباعهم وتنمية مهاراتهم، فإن كثيراً ما يكون الاعتقاد جاهزاً بأن هذا النوع من القص هو بسيط وذو صلة بأدب الأطفال حسب. وهذا بطبيعة الحال غير صحيح، فتلك القصص كانت من الأهمية ما جعلها مدونة بأفضل الأحبار ومحفوظة في أنفس القراطيس داخل خزانات أباطرة الشرق القديم.
وفي اقتران سرد الحيوان بالشر وجعله موضوعاً مركزياً ما يدل على أن النموذج الحيواني يوازي النموذج البشري. وخير مثال على ذلك (حكايات كليلة ودمنة) وفيها كثرة من النماذج الحيوانية، وهي التي وصفها طه حسين بأنها (جمعت حكمة الهند وجهد الفرس ولغة العرب، وهي من هذه الناحية رمز صادق دقيق لمعنى سام جليل هو هذه الوحدة العقلية الشرقية التي تنشأ عن التعاون والتضامن وتظاهر الأجيال والقرون بين أمم الشرق على اختلافها) والساردان الرئيسان في هذه الحكايات حيوانان من فصيلة ابن أوى، أحدهما يدعى كليلة والآخر دمنة، والهدف وعظي أخلاقي. وعلى شاكلة كليلة ودمنة تأتي حكايات (النمر والثعلب) لسهل بن هارون، وفيها الساردان ثعلبان أحدهما اسمه مرزوق ويكنى أبا الصباح والآخر اسمه طارق ويكنى أبا المغلس. ولا يخفى ما في إضفاء الأسماء الآدمية على الحيوان من دلالة أخلاقية أيضاً. وألف بن هارون حكايات (ثعلة وعفرة) وخلت من أية فواعل بشرية. وقال في المقدمة: (رأيت أن أصنع لك كتاباً في الأدب والبلاغة والترسل والحروب والحيل والأمثال والعالم والجاهل وأن أُشرب ذلك بشيء من المواعظ وضروب من الحكم.).
وهناك قصص مشابهة لكنها مغمورة، لم تنل عناية الدارسين، وأبطالها من الحيوانات والوحوش والشياطين، هي (قصص الأمير مرزبان) كتبها الأمير مرزبان بن رستم بن شروين في أوائل القرن الثالث للهجرة باللغة الفارسية ونقلها إلى العربية الوراويني في القرن السابع للهجرة ثم عرَّبها شهاب الدين أحمد بن عربشاه في القرن الثامن للهجرة، وطبعت لأول مرة بالقاهرة في منتصف القرن التاسع عشر. وتبدأ كل قصة بسارد بشري يقول (سمعت أن..)
ومهما اختلفت استجابات الإنسان وتفاوتت طرائق تعامله مع النماذج الحيوانية، فإنها لا تخرج عن فكرة توصيل المحتوى الأخلاقي بكل ما فيه من مضامين تربوية واجتماعية. وبالتعويل على هذه المضامين يتمكن الإنسان من تحقيق توازنه متغلبا إما على المخاطر والشرور أو مدركاً واقعه ومسيطراً عليه. وهو ما يبدو واضحاً في القص الشعبي وفيه يؤدي الحيوان دوراً فاعلاً ومركزياً -إيجاباً أو سلباً- ونادراً ما يكون ثانوياً في البناء السردي.