طلال حسين قستي
يوم الاثنين الماضي 27 يناير 2025م، وأثناء حفل إطلاق مشروع «درب الهجرة» الذي حضره ورعاه أمير منطقة المدينة المنورة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن سلطان بن عبد العزيز، كشف معالي الأستاذ تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه عن مشروع «على خطاه» الذي يحاكي الدرب الذي سلكه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه خلال الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهو المشروع الذي سينطلق ابتداء من جمادى الأولى 1447هـ - نوفمبر 2025م القادم بإذن الله، وكان سمو الأمير سلمان بن سلطان قد نوه في كلمته إلى أن مشروع «درب الهجرة» يعد شاهداً على ما توليه قيادتنا الرشيدة من اهتمام بالمواقع التاريخية التي تسهم في تعريف الأجيال بقيم النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه خلال هجرته الشريفة.
وطبقاً لتفاصيل المشروع الذي سيبدأ من منطقة «أسفل مكة» وينتهي عند المسجد النبوي الشريف، تصل مسافة الدرب التاريخي إلى 470 كيلومتراً، تتضمن معالم تاريخية ومواقع لقصص الهجرة، مع وجود محطات واستراحات للخدمات كل خمسة كيلو مترات، ومخيمات للمبيت، ويراعي في هذه الرحلة أن يعيش الزائر أجواء هذه الرحلة التاريخية للنبي صلى الله عليه وسلم. إن هذا المشروع الجليل يحيي تقليد سنوي قديم كانت تشهده مكة المكرمة خلال شهر رجب وربما قبله، وهو «الركْب» - بتشديد الراء وسكون الكاف - حيث يتجمع عدد كبير من أبناء مكة المكرمة والمدن المجاورة ليبدأوا مسيرتهم إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهم يمتطون ظهور دوابهم، ويسجل الأستاذ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله في مقال له عن «الركب» (ذكره الأستاذ حسن قزاز في كتابه أهل الحجاز بعبقهم التاريخي) انه كان من التقاليد المكية أن يجتمع الراغبون في زيارة المدينة المنورة في شهر رجب ويتواعدون على الخروج جماعة على ظهور حميرهم ونياقهم للسفر في موكب واحد إلى المدينة المنورة، وكانوا يحتشدون لذلك كل الاحتشاد، من الإعداد للرحلة وتزيين الدواب، وإعداد الزاد، وقد ذكر الأستاذ الرفاعي في مقاله أنه شاهد موكباً للركب العائد من المدينة المنورة، وكان ركباً حافلاً ازدحمت فيه النياق المزركشة والحمير الفارهة، وكان يقود الموكب حسن جاوا رحمه الله الذي كان ينشد بصوت رخيم:
عسى.. عسى.. في كل عام
نوقف على باب السلام
ونشاهد البدر التمام
شفيعنا يوم الزحام
كما يقول الأستاذ حسن قزاز في كتابه: ويحدثنا الشيخ عبد العزيز محضر عن الركب فيقول: «كانت بداية الذهاب لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل عام مع بداية شهري ربيع الأول وربيع الثاني، ثم في شهر رجب مما يسمى بـ» الزيارة الرجبية»، ويتكون الركب من كثير من أهالي مكة المكرمة والطائف وجدة، الذين كانوا يتجمعون من عدة حارات، وهناك عند حي الزاهر، يتجمع القوم لوداعهم والدعاء لهم بالقبول والعودة سالمين، ولم تكن تخلو أماكن التجمع هذه من بسطات بائعي البليلة والمكسرات والخيار بالشرش، وكباب الميرو، والكبدة الجملي، وصانعي السوبيا والزبيب ودوارق زمزم، ويبدأ المنشدون في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس كلهم إصغاء وترديد الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أداه للإسلام والمسلمين من هدي وإرشاد بما أنزل إليه من القرآن الكريم وسنته صلى الله عليه وسلم، ثم يتحرك الركب والحداة من خلفه يهزجون في فرحة غامرة.
وتبدأ وجهة الركب مع وادي فاطمة فعسفان ثم إلى القضيمة حيث يلتقون بزملائهم من أهل جدة بخيلهم وبغالهم وحميرهم، وكانت المسيرة تتكون من مجموعات تتشكل كل مجموعة تسمى «الُعزبة» - بضم العين وسكون الزاي - وكان كل 5 أو 10 أشخاص يكونون «عُزبة» ويؤمرون عليهم أميرا، ولا يتجاوز أفراد المجموعة من الركب عن 30 أو 35 شخصاً، ويتكون كيس العزبة من عدة ريالات يدفعها كل مشارك من ريال إلى ريالين أو أكثر، وكلما نفدت قدم للأمير غيرها.
وكان بعض الزوار يصطحبون عوائلهم، الذين تحملهم الجمال وقد توسدتها الشقادف التي تتسع لاثنين من كبار السن وفي مقدمتهم النساء.
وعادة تبدأ مسيرة الركب طيلة أيام الذهاب إلى المدينة المنورة قبل صلاة العصر وتستمر حتى بعد العشاء، وكانت المسيرة تستمر على حسب المسافات وأبعادها وحينما يحين الفجر يؤدون صلاته ثم ينامون يقضون الضحى ثم إعداد طعام الغداء، وكانوا عند وقت العشاء يتوقفون لإعداد الطعام وإراحة الدواب، وكان الطعام يكون من بقايا طبيخ الضحى أو من بعض ما يتزودون به كالعيش المقدد أو الشابورة مع زيتون وحلاوة طحينية أو مفروكة، وكان بعضهم يحمل «فتوت» وهو الدقيق المعجون بالسمن البري على شكل رقائق ملفوفة، وكان يحتفظ بلدونته زمناً ليس بالقصير، وكذلك الهريسة التي تصنع من اللوز الحجازي والسمن البري والدقيق ثم تحمر على النار وتقطع قوالب مثلثة، وكان بعضهم يحملون معهم في علب محكمة الإغلاق حلاوة تركي وهي دقيق محمر يضاف عليه اللوز الحجازي والسكر، ثم تستمر المسيرة حسب المسافات وحينما يحين الفجر يؤدون صلاته ثم ينامون إلى الضحى، وخلال الرحلة من محطة لأخرى كان الشباب يركبون الحمير ويتسابقون، ومن يسبق يعطي جائزة هي عبارة عن كلمات «حمارك أشطر من حماره».
كما يشير الشيخ عبد العزيز محضر أن الزيارة الرجبية للمدينة المنورة تبدأ في أول جمعة من شهر رجب، ثم يتحرك الركب من الاتجاه الذي اتجه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن عادات أهل الركب يؤتى برجل (يسمى المزهد) عند منزل الزائر الجديد للمدينة المنورة ويصدح بأبيات من الشعر في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً:
«صاح حادي الركب في وادي الحصون
صاح حاديها يقول:
ودعوا الأحباب والبيت الحرام
واقصدوا مسجد الرسول»
ويذكر الشيخ المحضر أن الركب كان يمر بعدة مواقع هي أم البرك فقهوة عليان فالحفائر، وعند موقع الحفائر يوجد هناك طريقان أحدهما للسيارات والآخر للجمال المحملة بالشقادف، ثم يمر الركب على عدة مواقع وصولاً إلى المسيجيد، ثم آبار الراحة وعار والفريش، بعدها يطالع الركب القبة الشريفة فيبتهج القوم ويسر خاطرهم لأنهم على مشارف مدينة الرسول، ثم ينحدرون إلى أبيار علي في اتجاه المسجد النبوي الشريف، وكانوا إذا ما وصلوا إلى مشارف المدينة المنورة يستقبلهم القوم هناك استقبالاً حافلاً ممزوجاً بفرحة التلاقي، ثم يأخذون في البحث عن مساكن تأويهم، وكذلك مأوى لرواحلهم، وكانوا يمكثون في المدينة المنورة قرابة 15 يوماً ثم يعودون من نفس الطريق الذي يستغرق منهم ثمانية أو تسعة أيام، ولا تخلو هذه الرفقة المباركة من مجموعات متجانسة بلطفهم وأخلاقياتهم وحسن معاشرتهم، ولا تخلو من الكثير من المعاني السامية وترسيخ الروابط المتينة من خلال المودة والمحبة بين الجميع، وعند مشارف مكة المكرمة شرفها الله يجدون أصدقاءهم ومحبيهم وفي المقدمة الآباء والأعمام والأقرباء يستقبلونهم بالمحبة والمودة والمباركة لهذه الزيارة الكريمة».
وفي هذا المقام أود أن أشير إلى مرجع مهم أنجزه الدكتور عبد الله حسين القاضي وهو كتاب «الهجرة النبوية المصورة» الذي يحكي باللغتين العربية والانجليزية معالم طريق الهجرة النبوية من نقطة البداية وهي منزل الرسول صلى الله عليه وسلم وصولاً إلى المحطة النهائية للهجرة وهي مكان مسجد قباء، كما يضم الكتاب خارطة موضحاً عليها طريق الهجرة النبوية ومعالم الطريق مرقمة ومتسلسلة، وهذا المرجع يمثل إنجازاً سعودياً علمياً يوثق طريق الهجرة النبوية طبوغرافياً. ويدعم الجانب الثقافي العلمي في هذا المشروع الجليل.
أما عن جانب أهمية مشروع «درب الهجرة» وتجربة «على خطاه»، فإنه يدل على العناية الكبيرة من قبل خادم الحرمين الشريفين وولي العهد حفظهما الله بحدث غير مجرى تاريخ الأمة، مثلما أشار سمو الأمير سلمان بن سلطان في كلمته في حفل إطلاق المشروع، من أنه رؤية متكاملة تتناغم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، للعناية بالمواقع التاريخية والإسهام في تعريف الأجيال بقيم النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه من خلال هجرته الشريفة، وأنه يسهم في تقديم تجربة استثنائية لضيوف الرحمن تجمع بين الأثر الإيماني العميق للهجرة، وتعكس جزءاً من الثقافة الوطنية الأصلية التي تميز الشعب السعودي.
** **
- رئيس تحرير مجلة الحج والعمرة سابقاً