أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
يتعذر في اعتقادي استقامة التنظير في العلوم الجيومكانية في غياب ربط مفاهيمها البُعدِيَّة المقيسة بنظيراتها المنطقية اللا مقيسة غير البُعدِيَّة وفقا لما سيأتي تفصيله لاحقا في هذا المقال. وتعد العلوم الجيومكانية، وفي مقدمتها تحديدا علم الجغرافيا بشقيه النظري والتطبيقي المساحي والخرائطي الطبيعي والبشري، من أحوج العلوم وأكثرها الحاحا في رأيي لهذا الربط المفاهيمي التنظيري المحكم. فهي علوم بطبيعتها ذات صلة أكثر من غيرها بالبعدين المقيسين «المكان والزمان» اللذين تتمحور حولهما أبعاد التنظير وما يتعلق بها من هيئات مفاهيمية لا مقيسة غير بعدية راجعة التغذية زمكانيا.
ويلعب توظيف العلوم الجيومكانية لهذين البعدين دورا نوعيا فاعلا في تقرير مدى فهم هذه العلوم لبنيوية الظواهر الطبيعية والإنسانية قيد النظر وعمق تفسير مسلكياتها الديناميكية وتحديد أنماط توزيعاتها المكانية، كما يساعد هذا التوظيف في رصد مدى تأثير التجارب الادراكية الحسية على طبيعة الإجراءات الاشتقاقية لمسارات الشروحات المعرفية لمفاهيم هذه العلوم من ناحية واستنباط التعميمات الاستقراء- استدلالية ذات العلاقة وتقعيد منظوماتها الائتلافية الرقمية المنمذجة منهجيا من ناحية أخرى.
وفي المقابل أيضا يلعب توظيف هذين البعدين وغيرهما من المفاهيم الجيومكانية غير البعدية أدواراً فاعلة مؤثرة إيجابيا في طبيعة التوجهات التقنية التي يتطلبها التمثيل الخرائطي والاحصائي البياني للشواهد الجيومكانية البعدية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البعدية الائتلافية الصارمة الاستدلال منهجيا.
واستنادا إلى ما سبق يعد «المكان والزمان» إذن العمود الفقري الذي تتمحور حوله اهتمامات العلوم الجيومكانية التنظيرية تحديدا وما يضاف إليها من تطبيقات تتعلق بشكل خاص بالسبر والاعتبار للظواهر المختلفة وتمحيص أبعادها الزمكانية وتفسيرها وتوزيع انماطها المتنوعة، وتقرير حديات عملياتها الديناميكية وسبل تنميطها وتمثيلها خرائطيا وبيانيا.
ولذا نتيجة لكل تلك الأحوال الآنفة الذكر ترصد العلوم الجيومكانية في المكان وفق مفاهيم المكان، أطياف الزمان كما ترصد في الزمان وفق مفاهيم الزمان أطياف المكان مطبقة لهذا الغرض الرصدي برمجيات حاسوبية وحقائب الكترونية متقدمة، تحوي حصريا عددا من نظم التحليل الرقمي المكاني الطيفي، والسلاسل الزمنية التحويلية التفاضلية التكاملية التتابعية الأبعاد، والارتباط الزاحف الاندماجي الحالات، ونماذج الانحدار التلقائية الجيوعددية الاطياف، والتحليلات العاملية المحورية التدوير، ونظم العنقدة العددية المبرمجة لأقرب صلة جوار مكانية ممكنة.
كما تشمل البرمجيات والحقائب الحاسوبية الرقمية الآنفة الذكر نظما تحليلية عديدة أخرى من أهمها: نظم المعلومات الجغرافية، وقواعد البيانات الجيومكانية العملاقة، والاستشعار من بعد، ونظم التوقيعات المكانية، والمسوحات وتصميم الشبكات الجيوديسية، ونظم التحليلات الجيو إحصائية المدمجة جيوماتيكيا ضمن إطار ائتلافي تقني مدعوم اجرائيا بقواعد البيانات والخوادم ذات السعة التخزينية العملاقة، وتُغَذَّى قواعد البيانات المشار اليها آنفا بطبيعة الحال بطيف غير منقطع من الصور الجوية والفضائية الملتقطة في الأطياف ما تحت الحمراء أوفي ما فوق البنفسجية التي تبعثها إلى مختلف مراكز استقبال البيانات في الأرض المركبات والأقمار الصناعية والمقاريب الفضائية التي تجوب أقطار الفضاء الشاسع.
وقد مَكَّنَت هذه البرمجيات والحقائب الحاسوبية الجيومكانية والخوادم العملاقة السعة والمركبات والاقمار الصناعية والمقاريب الفضائية الآنفة الذكر المشتغلين بالعلوم الجيومكانية من وصل المكان بالزمان فساعد وصلهما بكل تأكيد على تأطير الظواهر الأرضية ودمجها في المنظومة المفاهيمية التنظيرية البعدية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البعدية لهذه العلوم.
على الرغم من غزارة الجهود العالمية القيمة التي بذلها ويبذلها المشتغلون في مجال التنظير الجيومكاني وتقعيده فلسفيا ومنطقيا واجرائيا، إلا أن بعض المشتغلين بهذا التنظير قد آثروا، كما هو الحال في عدد من العلوم الأخرى، ألا يتفقوا وأن يختلفوا فيما بينهم فلم يأتلفوا أو يألفوا ما توصل إليه صناع هذا التنظير من استنباطات منهجية تقتضيها التطبيقات الجيومكانية المعاصرة، ويعود عدم الائتلاف بين المشتغلين في هذا المجال في رأيي إلى طبيعة بعض تنظيراتهم التي كانت تجرى ولا تزال تُجرَى أحيانا بمنأى عن التأصيل الجيومكاني للمفاهيم البعدية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البعدية التي من المفترض أن تحتل مكانة متقدمة في سلم الأولويات التنظيرية المرجعية التي عليها تؤسس ابتداء التطبيقات الجيومكانية. ولذلك لا غرابة أن تؤدي هذه الإشكالية التنظيرية إلى قصور التفاسير الجيومكانية الفلسفية والمنطقية والتطبيقية الاتجاه فيضيق بطبيعة الحال تبعا لها الخناق على العمل الإبداعي التنظيري والتطبيقي الجيومكاني الأصيل ويُحَجَّمُ واسعه. وإن لم تحل هذه الإشكالية المفاهيمية الكؤود سيتسع البون بين طبيعة العلوم الجيومكانية وأهدافها وبين مفاهيمها البعدية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البعدية محور اهتمام هذا المقال وغايته.
وحلاً لهذه الإشكالية الإجرائية الشائكة أقترح ضرورة إعادة قراءة المفاهيم الجيومكانية ومنها على وجه التحديد المفاهيم البُعدِية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البُعدِية قراءة تنظيرية موضوعية مرجعية جديدة، بحيث يتمخض عنها منظور يعد المنظومة المفاهيمية الجيومكانية ببعديها المقيس وغير المقيس هيئات ذهنية فكرية ديناميكية رحبة غير مقيدة زمكانيا بالتفكير فيها من داخل صناديق مظلمة تجبر بعض المشتغلين بالعلوم الجيومكانية التعامل مع المفاهيم كهيئات استاتيكية دوجماتية تجريدية محدودة الفاعلية تنظيرا وتطبيقا. فالمكانية مثلا تعد، وفق هذه القراءة غير المقيدة بظلمة صناديقها، مفهوماَ لا بعديا غير مقيس، ولكن المكان الذي نتصوره بتفعيل هذه الهيئة المفاهيمية المكانية هو بعد لواقع مقيس.
والزمانية يجب أن تعد في المقابل كذلك مفهوما يمثل في حقيقة أمره هيئة مفاهيمية لا بعدية ذهنية أو صورية غير مقيسة، ولكن آثار الاعتلال الحسي للظواهر المكانية وفق هذا المفهوم الصوري غير المقيس يعد بكل تأكيد واقعا مقيسا يوظفه الباحث المكاني متى شاء لوصف أوعية زمكانية جيو مساحية مقيسة. ونتيجة لذلك ينبغي أن يحقق الأنموذج المفاهيمي الجيومكاني في رأيي المتواضع وفقا لهذه القراءة التنظيرية الدقيقة ابستمولوجيا تأرجحا منطقيا بين طيفين متضادين ظاهرياَ، الأول هو الطيف غير المقيس والثاني هو الطيف المقيس، أي أن يتأرجح بين المفهوم نفسه وبين الواقع المقاس المؤطر بهذا المفهوم. ولا شك أن هذا التضاد الظاهري بين ما لا يقاس وهو «المفهوم» وبين ما يقاس وهو «الواقع» يجعل التعامل مع المفاهيم الجيومكانية أمراَ يتطلب دقة تنظيرية متناهية لرسم الحدود بين «المفهوم والواقع».
وقد يتعقد هذا الأمر أحياناَ نتيجة لعدم انسجام المفهوم «الطيف غير المقيس» مع الواقع «الطيف المقيس» الذي نتصوره أو نسعى لتفسيره وفهمه جيومكانيا. ولكن من حسن الحظ أن قابلية المفهوم الجيومكاني للتغير والتطور، وإعادة الصياغة وفق مستجدات المعرفة، ومرونة بنيته الأبستمولوجية يقلص إلى حد كبير من آثار هذه الأزمة ويسدد فجوات التضاد الظاهرية بين المفهوم والواقع المكاني قيد البحث. كما أن قابلية المفاهيم الجيومكانية للتحول بشكل كلي أو جزئي إلى المبادئ أو إلى المعلومات كحد أدنى يقلص هو الآخر من أزمة عدم الانسجام المفاهيمي بين ما يقاس وما لا يقاس منها. فعلى سبيل المثال يكون التضاد الظاهري بين المفهوم والواقع في أوج أزمته عندما يسقط الباحث المكاني مفهوما على وقائع لا تقع ضمن إطار الطيف المناسب لهذا المفهوم، كأن يعتل الباحث بظاهرة مكانية في غير مواطن اعتلالها قياسيا. فقد تقاس، على سبيل المثال، واقعة مكانية بغير شاهد مرجعي إلى واقعة مكانية أخرى ذات شواهد مفاهيمية مرجعية ولكن دون أن يأخذ الباحث في الاعتبار في هذا القياس المنطقي ضرورة تساوي هاتين الواقعتين في علة حدوثهما تعميما أو استنباطاَ.
وعلى أية حال فارتباط الظواهر بعضها ببعض وتلازمها الظاهري شيء وارد الحدوث ويتكرر زمكانياَ في الأغلب الأعم في هذا العالم، ولكن لا ينبغي أن يعد هذا التلازم الظاهري مبرراَ للاعتلال دوما بالمفهوم السببي في التحليلات الجيومكانية المعاصرة. فالأشياء قد تظهر علاقات بين أجزائها ولكن ليس بالضرورة أن تكون مسببة لبعضها. فإذا افترضنا أن (أ) يقود إلى (ب) فإننا نفترض ذلك فقط ولا نستطيع أن نجزم به إلا في حالة تحقق انتفاء جازم لتأثير مجموعة من العوامل الأخرى التي تمثلها (س) على (ب) وتكون هذه العوامل مستقلة عن (أ).
وهذا أمر قد يكون مستحيلاً بطبيعة الحال بسبب تداخل المتغيرات وتعددها في العالم المفتوح، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار العلاقات المتبادلة دليلاً على علاقات تبادلية سببية مباشرة، خاصة أن هناك أسباباً غير مباشرة لها علاقات قوية ومتبادلة مع المسببات، كما أن السبب الذي يؤدي إلى نتيجة ما قد لا يؤدي نفسه إلى النتيجة ذاتها في ظروف أخرى، وهذا يعني أن مبدأ السببية كنموذج يجب أن يقتصر منطقيا على وصفه للروابط بين الظواهر دونما تفسيرها سببيا أو الجزم بحدوثها أو إنكار ذلك الحدوث ونفيه جملة وتفصيلا إلا ظاهرا. وما بين مطارق الجزم والإثبات وسنادين النفي والانكار آمل ألا تتسع الفجوة المعرفية بين الواقع والمفهوم أي بين المكان والزمان وواقعهما المشاهد المقيس فتترجح تبعا لذلك كفة احتمالات الإنكار على كفة احتمالات إثباتات المفاهيم التنظيرية الجيومكانية البعدية المقيسة والمنطقية اللا مقيسة غير البعدية، فتصبح تلك المفاهيم رغم أهميتها المرجعية التنظيرية والتطبيقية ربما أثرا تذروه الرياح ويقذفه التاريخ في غياهب النسيان وتأسره الجغرافيا في أعماق فضاءات تقاصر المكان وتشوهات الزمان.