محسن علي السهيمي
صدر مؤخراً عن (دار كنوز المعرفة) الأردنية كتابٌ قيِّم يقع في (88) صفحة من القطع المتوسط لمؤلِّفه الأستاذ الدكتور عبدالله بانقيب أستاذ النقد والبلاغة بالكلية الجامعية في القنفذة التابعة لجامعة أم القرى عنوانه (بلاغة النص العِلمي.. نحو تأسيسٍ نظريٍّ ومقترحٍ تطبيقيٍّ). ولعلني أضع هنا (إشارات خفيفة) عن محتوى الكتاب، مع يقيني أنها لا تفيه حقه؛ كونه يناقش موضوعًا استثنائيًّا.
يتضح من بداية مقدمة الكتاب أن المؤلف متعلق -حد الشغف- بلغة البلاغي عبدالقاهر الجرجاني وعباراته ومنهجه، ونراه يعترف بأنه عزم على الكتابة عن بلاغة النص العلمي لكنه أجَّل موضوع الكتابة؛ تهيُّبًا وانشغالًا، وفي نهاية الأمر عزمَ على البدء (مهما بدا في الإقدام من قصور).
في البدء يقرر المؤلف أن التحليل البلاغي «ارتبط بتحليل النصوص البيانية، قرآنًا وسنةً وإبداعًا إنسانيًّا…» لكنه يأخذ على هذا التحليل البلاغي انشغاله بتلك النصوص البيانية على حساب «تأمل اللغة الواصفة لهذه النصوص، والمحللة لها» أي أن هذا التحليل انشغل أو «أذهل عن تحليل التحليل».
مما يتعجب منه المؤلف وجود دراسات -على قلتها- عُنيت ببلاغة النص العلمي في (العلوم الطبيعية)، مبررًا قلة الدراسات في العلوم الطبيعية لكون لغة العلوم الإنسانية هي الأقرب إلى النظر البلاغي، ثم يوضح مقصوده ببلاغة النص العلمي بأنه «دراسة النص العلمي دراسة فنية وأسلوبية تكشف عن بلاغة التعبير دِلالةً وتركيبًا وتصويرًا، وحتى إيقاعًا في بعض النصوص العلمية التي تحفل بقيم صوتية بارزة…».
كان ظني أن المقصود بالنص العلمي هو ما يخص العلوم التطبيقية أو ما يسمى بالعلوم الطبيعية دون سواها من العلوم الإنسانية، لكن المؤلف كانت له رؤية مغايرة؛ حيث ذكر أن دراسته هذه تنطلق من رؤية تبنتها ترى «أن للعلم جناحين، جناحًا يتصل بالعلم الطبيعي الرياضي، وآخر يتصل بالعلم الإنساني»، داعيًا لعدم حصر صفة العلم على جناح دون آخر، مبررًا ذلك بأن الحصر «إغفال لحركة العقل الإنساني ولطبيعة نشأة العلوم وتوالد بعضها من رحم بعض»، وكأني بالمؤلف بهذه الدعوة يجعل صفة العِلم تتخطى إلى (العلوم الإنسانية)؛ بحيث لا تقتصر على (العلوم الطبيعية) وحدها.
هنا يرتسم سؤال مفاده: أيهما أولى بلفت الانتباه، الفكرة؟ أَم العبارة الموضحة للفكرة؟ وللإجابة على هذا السؤال يأتي المؤلف بتأكيد البلاغي الدكتور محمد أبو موسى على أن «مما كان يلفت نظر عبدالقاهر في كتاب سيبويه ليس بكارة الفكرة فحسب؛ بل بكارة العبارة عنها أيضًا»، قائلًا -أي المؤلف- «فكأن العبارة البكر عن الفكرة البكر في النص العلمي توازي التشبيهات العقم في النص الأدبي، فكلاهما امتاز بالتفرد وبالاستعصاء على الاحتذاء والتداول»، مستدلًا بعبارة سيبويه التي عرَّف فيها الفعل بقوله «وأما الفعل فأمثلةٌ أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيت لِما مضى، ولِما يكون ولم يقع، وما هو كائن ولم ينقطع».
ثم نجد المؤلف يطيل -بعض الشيء- مع محمود شاكر وأبي موسى ويبرر تلك الإطالة في النقل عنهما حول البلاغة في كتب التأسيس الأولى من أجل بيان أن «الحاجة إلى دراسة بلاغة النص العلمي ليست أمرًا تبتدعه هذه الدراسة» وهذا البيان الموضوعي الصريح يُشكر عليه المؤلف، مؤكِّدًا على عنصرَي (الدقة والإيجاز) عند تحليل المتن العلمي، ضاربًا المثال بأشهر متن حظي باهتمام العلماء وهو (تلخيص المفتاح للخطيب القزويني).
من المسائل المهمة التي تطرق إليها المؤلف مسألة الفصل بين لغة العِلم ومادة العلم؛ بحيث لا تكون لغة العلم متأثرة بمادته فتكون (لغة إنشائية) ضاربًا المثل بالعديد من الدارسين البارزين في الماضي والحاضر الذين لا تنفك لغتهم عن التعبير الجمالي، وفي المحصلة يميل المؤلف إلى (التوسط في الأمر) فلا جفاء ولا إغراق.
ومن المسائل المهمة التي تطرق لها مسألة أيهما أشد صعوبة تحليل النص الأدبي؟ أم العلمي؟ هنا نراه يميل إلى النص العلمي؛ لانه كما يقول «يتطلب كل ما يستلزمه تحليل النص الأدبي مضافًا إليه ما يقتضيه النص العلمي من مراعاة لمجاله الخاص تصورًا وبناءً ووظيفةً».
في مسألة (مصادر العالِم) يرى المؤلف ضرورة أن يكون المحلل على معرفة بمصادر العالم، لكنه يفرِّق بين مصادر العالم التي نقلها من غيره وبين ما هداه إليه عقله من استثمار فكرة ما أو نص سابق، وفي هذه النقطة -تحديدًا- يبدع المؤلف (بانقيب) جملةً رائقةً للتفريق بين المسألتين؛ حيث يقول «وهذا يختلف اختلافًا بينًا عمن يستثمر فكرةً أو نصًّا لعالِم سابق ثم يستنبت ذلك، ويسقيه قطرات عقله، ويمده برشح جبينه تفكرًا وتأملًا، إلى أن يغدو شجرة باسقة وارفة الظلال»، وهنا نجد لفتة جميلة من المؤلف حينما ذكر أن «استحضار مقدِّمة كتاب الحيوان في تمثيل عبدالقاهر لبعض الأفكار البلاغية دال على أنَّ عبدالقاهر يصل في بلاغته بين النص الأدبي، والنص العلمي، وأن البلاغة عنده لا تُقصَرُ على النص الأدبي، بل تمتد إلى النص العلمي».
في سياق الحديث عن تحليل عبدالقاهر لمقدمة الجاحظ يذكر المؤلف أن عبدالقاهر يؤكد على «أن البلاغة في كل هذه الفنون بلاغة معنى وعقل قبل أن تكون بلاغة لفظ وجرس»، مؤكدًا على أن عبدالقاهر أثبت من خلال هذا التحليل «أن المعنى هو أصل البلاغة وإليه يُرد الفضل في المزية والتفوق البياني».
وفي خواتيم الكتاب قدَّم المؤلف مقترحًا تطبيقيًّا لتحليل النص العلمي ممثلًا في باب (حذف المبتدأ) في كتاب دلائل الإعجاز لعبدالقاهر وجاء ذلك تحت عدة عناوين هي (سياق الباب، بناء الباب، طرق الاستدلال، لغة النص).
جهد مشكور بذله المؤلف لتطويع هذا الموضوع الذي ربما أحجم عنه الباحثون؛ كونهم يتعاملون مع نص علمي (شبه جاف بلاغيًّا) مطلوب منهم عصره جيدًا، ثم استخراج قطرات شهده البلاغية (الشحيحة) التي لا تعدل غزارة الشهد البلاغي المستخرَج من النصوص البيانية (الطرية بلاغيًّا)، ومن هنا وبناء على ما فهمتُهُ من هذا الكتاب أرى أن النصوص ثلاثة أصناف:
الأول: نص بياني بحت (زاخر بلاغيًّا ومطروق بكثرة)، وهو الذي نجده في القرآن والسنة والأدب العربي بفنونه المختلفة.
الثاني: نص علمي شبه بياني (شبه جاف بلاغيًّا وغير مطروق بكثرة)، وهو الذي نجده في العلوم الإنسانية غير الإبداعية، وهو النص الذي أرى المؤلف عُني به واشتغل عليه في كتابه هذا وكان المقترَح التطبيقي لدراسته.
الأخير: نص علمي غير بياني (جاف بلاغيًّا وربما أنه غير مطروق)، وهو الذي نجده في العلوم الطبيعية.
فهل سنرى دراسات تتناول الصنف الأخير (النص العلمي غير البياني)؛ بحيث نجد ذات يوم مَن يحلل قانون نيوتن الذي ينص على أنه «إذا أثَّرت قوة محصلة في جسم أكسبته تسارعًا يتناسب مقدراه تناسبًا طرديًّا مع مقدار القوة المحصلة، ويكون اتجاهه في اتجاه القوة المحصلة نفسها»؟