رمضان جريدي العنزي
قلت لصاحبي حميد سنسافر ونقطع المسافات الطويلة، حيث المكان هادئ وممتع ويدعو للتأمل والاسترخاء، حيث العشب والزهر ومدارج الماء، الشمس إذا ظهرت أو انحدرت هناك كأنها لوحة فاتنة تصيبك بالعجب والدهشة، منظر العشب المتنوع في الصحراء وبمحاذاة الطريق لوحة أخاذة، تنعش الروح، وتوقظ القلب، وتنقل الإنسان لحالة مغايرة، في البلدة الصغيرة تشعر بالراحة والهدوء بعيداَ عن زحام المدينة وضجيجها، منظر الشجر هناك يأخذك حيث اللامنتهى، قلت لصاحبي حميد سنرحل حيث الأرض البكر، ومزارع التفاح والدراق والعنب، سنوقد السراج هناك، سنداوي العمر بعد أن أتعبنا العمل الطويل، معاَ سنسترجع الماضي التليد، قصائد الشوق، وقصص الضنا، لنريح أنفسنا من آلام التعب، سنرسم لظلنا الرقيق مساند من صلب حتى لا يقع، سنمشي طويلاَ نحو البلدة الصغيرة التي تنعم بالسكينة وبالهدوء، سنغرق في لغة الذاكرة، واسترجاع الماضي العتيد، سنلج الدروب العتيمة، والتواءات الماضي العتيق، حيث النافذة، والغرفة المطلية بألوان متنافرة، وموقد النار في الشتاءات الباردة، والثلج حين يحط، ومنظر القطا والغدير، وصوت (التكركتر) حين يسير في الدروب الضيقة، سننبش صور الماضي ونوقظ رائحته، سنصعد مع الذكريات كبخار الفجر، سنعيد لأسماعنا المواويل العتيقة، والهجيني وحداء الرعاة، وخبز أمهاتنا في الصباحات الباكرة، سننتشي عطر (أبو عصفورين)، ونبحث عن زير الماء، وعن مخدة القطن، وعن لحاف الصوف، والشرشف الرقيق، و(الدوشق) الأنيق، و(المهفة)، والزرب والحصير، والقربة والقطبة، سنحلق طويلا حتى تصبح أجسادنا مثل عصفورين صغيرين، سنظل ننحدر من تل، لسهل، لطريق، سنقتحم الأسوار، ونمنح لأنفسنا أحقية الراحة، وصلاحيتنا في هذا الشأن مطلقة، سنبحث بحذر عن عشبة وقمر، وسنخفق بأجنحتنا لأسراب الطيور التي تمر بمحاذاتنا، سنضفر جدائل الضجر بقصائد من حنين، سنحاول أن نقتنص لحظة مارقة لنوقد القنديل في الحجرة المظلمة التي انطفأت أنوارها، فليس عدلا أن نتسامر من غير قنديل، نرتل بعدها أذكار وأدعية، وننام حتى يؤذن مؤذن الفجر، نصلي ونشرب بعدها فنجان قهوة كي نفيق ونطرد الوسن.
هو العمر يسير سريعا مثل طائرة نفاذة، أو لحظة عابرة، من ربيع، لشتاء، لخريف، مع صاحبي حميد سبرنا أغوار الماضي الدفين، محاولين تفكيك جزيئياته وتكوين لغة شاعرية جديدة، تحوي تراكيب وعناصر مغايرة، هو السفر يوقظ القلب، ويملأ الذاكرة بصور فريدة، يعالج الظمأ، ويرد للروح العافية، هو السفر مع صاحب أنيق يحيلك لإنسان آخر غير الذي أنت، لتعود من تلك الرحلة بروح ثانية، وذكريات خالدة، تستقر في الوجدان والذاكرة.